زلزال سوريا وتركيا. “سوء حظّ أم ظلم؟”

“الخيانة، الغدر، الظلم والقسوة التي لا معنى لها هي رذائلنا العاديّة”

مونتين عن أكلة البشر

 

إعداد وترجمة: عبد الحميد محمد

 

يوديث شكلارز (1928-1992)

 عن المنفى واللاجئين والجنسيّة

الفيلسوفة والعالمة السياسيّة اللاتفيّة يوديث شكلارز Judith N. Shklars المولودة عام 1928 في ريغا Riga عاصمة لاتفيا (الجمهورية السوفياتية السابقة) ركّزت اهتمامها على الليبرالية التي من شأنها أن تمنع الظلم والقسوة، حتّى شكّلت استثناء في الفكر السياسي الفلسفي في أمريكا بمنظورها عن الواقعية المتشكّكة.

تتميّز شكلارز بأنّها لا تضع إجاباتٍ نهائيّة ولا تصمّم أنظمة كبيرة، لكنّها تعمل على نمطٍ من التفكير السلبي المتشكّك على الدوام يرفض الانغماس في التقاليد الكلاسيكيّة ويبحث عن بداية جديدة. حين قرّرت الانشغال بالدراسات المتعلّقة بنهاية الأيديولوجيّات الكبرى ونقد ليبرالية الحرب الباردة ونهاية التاريخ توفّيت فجأة بنوبة قلبية. لكنّها مع ذلك استطاعت أن تُصبحّ منظّرة أصيلة لليبرالية، بعد أن امتلكت معرفة واسعة وعميقة بالتاريخ الفكري.

هربت من مسقط رأسها إلى السويد ثم إلى اليابان عبر سيبيريا ثمّ إلى الولايات المتّحدة الأمريكيّة، وأخيرا إلى كندا قبل أن تقوم بدراسة الماجستير بالعلوم السياسية في العام 1951 بجامعة هارفارد Harvard University التي عملت فيها بمنصب دائم لمدّة 35 عاما، لكنّها ،ومنذ العام الأول، كانت زميلة جامعية لكلّ من وزير الخارجية الأمريكي الأشهر هنري كيسنجر  Henry Kissinger والمفكّر الراحل صموئيل هنتنغتون Samuel Huntington صاحب نظرية صراع الحضارات، وزبغنيو بريجينسكي Zbigniew Brzeziński مستشار الأمن القومي للرئيس الأمريكي جيمي كارتر .

قامت شكلارز في أمريكا بدراسة المنفى وحالة اللاجئين، فشملت حتى المعارضين في الداخل ضمن “المنفيّين” إضافة إلى اللاجئين السياسيّين والاقتصاديّين. ميّزت شكلارز في المنفى بين “الولاء” و”الالتزام”. الولاء هو ما يربط عاطفيا بين مجموعة ما وفكرة أو بلدٍ ما، بينما الالتزام فيتعلّق بمنطق القواعد والقوانين ومدى الخضوع لها.

حتى بما يتعلّق بمصطلحي الهروب والهجرة، رأت شكلارز فيهما خلطا كبيرا، لتشير إلى “الولاءات المشتركة” التي يجب على المجتمعات الليبراليّة تقبّلها لأنّ الولاء لبلد المنشأ ليس فيه ما يعيبه بل موقف سليم، أما فيما يتعلّق بالالتزام فلا يجوز لأنّ بلد المنشأ قد قام بخيانة اللاجئين.

لأجل ترويض الولاء السياسي قبل مطالبة المنفيّين واللاجئين به، تقترح شكلارز منحهم الجنسيّة:

إذا كانت الجنسيّة في أيّ بلد، كما اقترحت حنّه أرندت Hannah Arendt، حقّا ضروريّا للإنسان، في قرننا، لأنّ الآخرين يعتمدون عليه، فإنّ تقديم الجنسية للمنفيّين قد يبرهن على أنّه أهمّ وسيلةٍ لترويض الولاء السياسي“.

تنطلق شكلارز في ذلك من النظر إلى منح الجنسية كفعل اعتراف سياسيّ وأساسي يجب أن يسبق أيّ مطالبة بالولاء المطلق. كما إنها تنطلق من ضرورة ألا تكون العضويّة في نظامٍ سياسيٍّ ليبرالي مرتبطة بروابط الولاء الداخلي أو الانتماء لمجموعة عرقيّة أو ثقافية أو دينية، وألا تكون مشروطة بلون البشرة أو الجنس أو القدرات البدنية. ما تنطلق منه نابعٌ أيضا من قناعتها بأنّ “الاستبعاد سمة حتميّة وأساسيّة” تواجه المنفيّين واللاجئين، ولذلك دعت لحوار بين المنفيّين والمواطنين.

ليبراليّة الخوف وليبراليّة الأقليّات الدائمة

الأسئلة الفلسفية الأكثر إثارة للاهتمام في القرن العشرين والتي عملت شكلارز على الإجابة عنها كانت: الظلم، الكارثة، المصير، الجرم والخطأ.

ما ميّز فلسفة شكلارز عن فلسفة حنّه أرندت هو رفضها للافتراضات الميتافيزيقية الكبرى وحتى للبرامج السياسية، ليذهب ناشرها الألماني هانز باجور Hannes Bajohr للقول إنّ “دراسة شكلارز تشبه شرب كوبٍ من الماء البارد“.

عدّت شكلارز القسوة ذلك الشكل الأعظم للظلم الذي يجب تجنّبه، ما دفعها للكتابة عن ذلك بوضوحٍ، بعيدا عن الحذلقة المبنيّة على المصطلحات التي ميّزت معظم فلسفات القرن العشرين، فذهبت لانتقاد الليبرالية الجديدة Neoliberalismus في وقت مبكّر جدا انسجاما مع قناعاتها، وأكّدت باستمرار أنّ جوهر الليبرالية وأساسها أنّها “ليبرالية الأقليّات الدائمة Liberalismus der permanenten Minderheiten”، فاقترحت أن تقتصر الليبرالية على السياسة وتعمل على تقديم مقترحات تمنع إساءة استخدام السلطة لتخليص النساء والرجال البالغين من الخوف وتحرّرهم من التحيّز، ليتمكّنوا من العيش وفقا لميولهم وقناعاتهم، لتتوافق بذلك مع جون رولز في اعتبار الليبرالية “سياسيّة وليست ميتافيزيقيّة“. انبثقت الصيغة الأولى من ليبرالية الأقليّات الدائمة من اهتمامها بمحاكمات نورنبرغ Nürnberger Prozesse التي أعطتها أهمّية كبيرة لما لاحظته فيها من تعاملٍ وتعاطٍ  بأيديولوجيّة الاكتفاء الذاتي بالقانون مقابل الخطابات السياسية والأخلاقية والتي وصفتها بالشرعويّة Legalismus التي تتقيّد بالشرائع والقوانين حرفيّا، حيث كانت سلبيّة كعادتها في هذه الليبرالية التي تستغني إلى حدّ بعيد عن الافتراضات الأساسيّة الإيجابية، مشيرة إلى أنّ المنظور الأخلاقي للمجموعات الهامشيّة وحدها هو ما يستحقّ ويجب أن يكون نموذجا معياريّا وتوجيهيّا.

وجّهت شكلارز انتقاداتٍ قويّة عديدة إلى الليبرالية الجديدة، أوّلها أنها طريقة تفكير ساذجة تاريخيّا، وثانيها أنّها متفائلة بشكلٍ مفرط مع أنّ التاريخ نادرا ما تحدّث عنها، ولذلك فهي لا تزال مهدّدة بالاختفاء، وثالثها أنّ أفكار الليبرالية وتصوّراتها عن الحرّية غاية في التبسيط تركّز كثيرا على الحرّية الفردية بمفهومها الأناني البحت.

تتمثّل الشروط الأساسية للحرية لدى شكلارز في القدرة على العيش دون خوف ودون قسوة وجبروت، وقد تكون تدابير دولة الرفاهية والمواطنة النشطة والمسؤولة ضرورية لضمان تلك الشروط.

ومع أنّ شكلارز كانت قد فرّت من النازيّين (بعد احتلالهم للسويد) ومن ستالين، فإنّها وإن اعتبرت أنّ الدولة أكبر مصدر للخوف والقسوة، لكنّها أكّدت على أنّ الدولة لها وظائف حماية مهمّة، فالحياة خارج الدولة ستكون أكثر قسوة.

شكلارز حملت قراءة مختلفة وآمالا مختلفة عن الآخرين من الليبرالية وتتمثّل في منع القسوة، ولذلك لجأت لكتابة مقالها الأشهر في الغرب “ليبرالية الخوف” عام 1989. كتبت تقول:

أن تكون على قيد الحياة يعني أن بك خوف“.

هذا يعني أن نقطة البداية في الليبرالية تبدأ من الشعور السلبي تحديدا، ويعني الحاجة إلى ليبرالية قادرة على منع الخوف من أن يصبح المزاج السائد، وتسمح لكلّ فرد بكتابة قصّة حياته بحرية بعد أن تمنع الخوف من العنف والمصاعب الاجتماعية. ليس بالضرورة أن تحمل قصة كل فرد في الليبرالية نهاية سعيدة لما يمتاز به البشر من هشاشة، ولكنّها يجب تكون قادرة على تأمين ما وصفه ايزايا برلين Isaiah Berlin “حدّ أدنى معيّن من الحرية الشخصيّة، لا يمكن انتهاكه بأي حالٍ من الأحوال“. أن نعيش في خوف يعني أننا بالأساس غير أحرار. تقول شكلارز:

نحن نخشى مجتمعا من البشر الخائفين. الخوف المنهجي للجماهير يجعل حرية الإنسان مستحيلة“.

الخوف من الزلزال، الخوف من الحروب، الخوف من الإفقار، الخوف من الإبادة العرقية، الخوف من الانحباس الحراري وتغيّر المناخ، مخاوف لا تنتهي في المجتمعات البشرية المعاصرة تمنح مخاوف شكلارز شرعية كبيرة وتخلق تحدّياتٍ وجودية كبيرة على الليبرالية لتتحوّل لليبرالية الأمل.

يقول آكسل هونيث Axel Honneth:

حين يتمّ الحديث عن الليبرالية السياسية، فالمقصود قبل كل شيء هو المشروع النظري للعدالة لجون رولز John Rawls أو الجمهوريانية الليبرالية liberale Republikanismus لحنّه أرندت. نادرا ما يتم الأخذ في الاعتبار أنّ هنالك عددا من البدائل الأخرى لتأسيس الليبرالية، والتي تنطلق من منطلقاتٍ وأرضيات مختلفة تماما، وبالنظر إلى كتابات يوديث شكلارز الهامّة وقبل كلّ شيء “ليبرالية الخوف” سرعان ما يتّضح أنّها انتهجت مسارا بديلا لتأسيس الليبرالية“.

على العكس من رولز وأرندت رأت شكلارز أنّ التفوّق الأخلاقي لليبرالية على كلّ التصوّرات السياسية الأخرى المتعلّقة بالنظام يجب أن يسمح لها بتجنّب ومنع الضرر للبشرية بحكم ما تمتلكه من آليّاتٍ مؤسساتية، وإذا كانت عاجزة عن تحقيق الأمنيات أو ما هو مرغوب فيه من ظروف، فعليها أن تنجح في منع ما هو أسوأ.

يرى هونيث أنّ شكلارز ورغم احترامها الكبير لجهود جون رولز الفلسفية إلا إنّها التقت واتّفقت مع حنّه أرندت على أن مشروعية البيانات العامة لا تتأتّى إلا عبر تشريح خارجي لكلّ ما هو مشترك بين أكبر عدد ممكن من الحالات الفردية، كما إنّ تجربة الاقتلاع من الجذور التي عاشتاه كلاهما قد ساهمت في التشكّك بأيّ نهج لا يأخذ في الاعتبار حالة الظروف المحلّية والتاريخية في الانتقال السريع من العام إلى الخاص. من الواضح أن صفاتهما وفضائلهما الشخصية لعبت دورا في تحليل العمل السياسي وسيرتيهما الفكرية والعمل بشجاعة ضد التهديد الشمولي وضد عنف الدولة.

يشير هونيث إلى القرابة الروحية بين شكلارز وأرندت في دراساتهما البارعة عن الشخصية، والتي تستخدمان فيها اقتباسات وأمثلة من الروايات الكلاسيكيّة لجين أوستن Jane Austen أو فولكنر أو ديكنز Dickens لاستكشاف الحدود الدقيقة بين ما هو مجرّد سماتٍ شخصيّة غير مريحة والسلوك الضارّ ديمقراطيّا.

لطالما دافعت شكلارز عن نظرية سياسية ليبرالية تكون على اتّصال وثيق بالحياة الحقيقيّة.

عن الظلم وسوء الحظّ والمصير

تميّز شكلارز بين سوء الطالع وبين الظلم، فسوء الطالع يعني أنّه ليس هنالك مسؤولون عن الكارثة، أمّا الظلم فينطلق من مدى مشاركة ومساهمة البشر في الكارثة سواء كانت تلك المساهمة ضمنيّة أو صريحة.

هذا التمييز لدى شكلارز يمتاز بنوعٍ من المرونة التاريخيّة، فما كان كارثة طبيعية وسوء حظّ قبل مائة عام قد يكون اليوم ظلما، فالتقنية وأدوات الدولة يجب أن تساهم في منع وقوع الضحايا وتقديم المساعدة لهم، فالوباء مثلا لم يعد بإمكاننا عدّه ظاهرة طبيعية وسوء حظّ لأن الإجراءات الخاطئة في التعامل معه يحوّل الكارثة وسوء الحظّ إلى ظلم. الحدود بين الطبيعي وغير الطبيعي لدى شكلارز هي نفسها قابلة للتغيّر تاريخيّا، فلون البشرة قد يكون طبيعيّا لكنّ عواقبه ليست طبيعية.

يأتي الظلم أحيانا من الإغفال والإهمال وعدم القيام بما كان يجب القيام به وإنجازه من قبل الجهات الحكومية الفاعلة والمسؤولة، كما في حالة الكوارث ومنها الزلزال أو الكورونا في حالة الوباء، فهذه الجهات ستكون غير عادلة في حالة عدم تقديم المساعدة اللازمة في الكوارث وعدم القيام بمعالجة الوباء وعدم القيام بحملات تطعيم وتلقيح ضرورية.

لكن حتى المواطنين قد يُساهمون في الظلم إذا خيّبوا التوقّعات فيهم كمواطنين مسؤولين عليهم الدفاع عن أقرانهم وإخوانهم الآخرين من البشر.

على عكس معظم الفلاسفة الآخرين، فإن الظلم لدى شكلارز يسبق حتى العدالة، فالفلاسفة الآخرون ركّزوا على العدالة في المقام الأول مع النظر للظلم كمجرّد نقيض للعدالة.

ليس هنالك مفهوم مفصّل واضح عن العدالة، والعدالة أقرب إلى تميمة مجرّدة بينما نشعر بالظلم بشكلٍ ملموس، ونحن نقول إن “هذا غير عادل” أكثر مما نقول إنّ “هذا عادل”.

رأت شكلارز أنّ ما وصفته بـ “نموذج العدالة العادي” يتعامى عن جميع أشكال الظلم التي لا تتناسب ونظامه ولا ينصّ عليها هذا النظام، وبالتالي فإنّ التركيز على الظلم يلعب وظيفة كبيرة في تصحيح نظريات العدالة وتوسيع مجالات وأفق رؤيتها. قضية التحرّش الجنسي مثلا قضية جديدة على العدالة، تطوّرت حديثا ولا تلاحظها نظريات العدالة المجرّدة كثيرا حتى غدت قضية ظلم وظاهرة تخضع للاعتبارات السياسية والأخلاقية فقط.

شكلارز لا تقدّم، بل لا تستطيع أن تقدّم قواعد صارمة للتعرّف على الكوارث وتصنيفها بين كونها سوء طالع أو ظلما يجب القضاء عليه أو على الأقلّ تحديده، ولذلك فهي لا تهتمّ بإعادة تقييم جميع كوارث العالم كنوع من الظلم، ولا تقدّم حججا وجوديّة على ذلك، فالظلم وما هو غير عادل يقرّره في نهاية الأمر الخطاب السياسي والمرسوم السياسي لا المرسوم الفلسفي.

دعت شكلارز إلى توسيع دائرة اللا مفكّر فيه عبر هذا التمييز بين الكارثة الطبيعية والظلم واللا عدالة، وهذا يعني أنه يجب الاستماع إلى كلّ الأصوات التي تشتكي من الظلم بدلا من قمعها وحتّى توبيخها كما يحصل الآن في كثير من الكوارث، لكنّها نوّهت إلى أنه ليس كلّ ادّعاء بالتعرّض للظلم له ما يبرّره، كما إنّ من يستغلّ الآخرين اليوم قد يتعرّض هو نفسه للظلم لاحقا حين يفقد امتيازاته وتتمّ معاملته معاملة غير عادلة.

عن الضحيّة والجناة

أشارت شكلارز إلى أنّ الفلسفة عبر تاريخها نادرا ما اهتمّت بمنظور الضحايا بل اهتمّت بالجناة أكثر، وهؤلاء الجناة كثيرا ما يتمّ اعتبارهم ضحايا بسبب اضطّراب روحي أو نفسي، ما يعني أنّ هؤلاء الجناة أو الفاعلين كانوا هدفا للعقاب أو التفهّم لتحسين سلوكهم.

أمّا الضحايا فقد تمّ الاهتمام بهم وبحالتهم ببطءٍ كبير جدا عبر التاريخ إلى أن أصبح الاهتمام يتركّز عليهم أكثر فأكثر، والظلم الذي يُحيق بالضحايا والشعور بالظلم عموما غالبا ما يشكّل رؤية خلفيّة فقط لنظريات العدالة التي تعجز مفاهيمها القانونية عن إيجاد الإطار المناسب لاستيعاب التجارب الذاتية في الظلم.

لشكلارز مفهوم خاص ودقيق عن الضحيّة، فالضحية لديها لا هويّة لها ولا تحمل وصفا ثابتا، بل إنها من فئة ديناميكيّة بحيث أن كلّا منّا يمكن أن يُصبح ضحيّة، ولذلك فإنّ من مصلحة الجميع ألا يتجاهل الضحايا كلّما كان ذلك ممكنا، وهذا يعني أن المسألة لا تتعلّق بالأخلاق في المقام الأول بقدر ما تتعلّق بالديمقراطية، فالديمقراطية تعني الاستماع لشكاوى ووجهات نظر وآراء الجميع، والضحايا مواطنون محرومون مما يحقّ لهم ويمنحهم إيّاه النظام الديمقراطي، وحرمانهم من هذا الحقّ يشكّل انتهاكا للديمقراطية.

مع هذا المفهوم عن الضحيّة والضحايا والذي لا يقدّم إجاباتٍ واضحة، ولا خطوطا فاصلة بين سوء الحظّ والظلم يبدو الأمر محبطا جدا، ولكن هنا بالذات تكمن قوّة شكلارز كما يؤكّد ناشرها الألماني هانز باجور Hannes Bajohr، فهي ليست دوغماتية على الإطلاق، ولا تملك الحلول الأمثل، بل تشير إلى تعقيد المسألة ودقّتها قبل كلّ شيء، تمارس التفكير لمنع ما هو أسوأ على الأقل حتى وإن كانت لا تملك تعليمات واضحة للعمل على المسألة. أكّدت شكلارز على أهميّة تشخيص المشكلات بدقّة بدلا من تقديم حلولٍ مفرطة في التفاؤل.

باجور يؤكّد على أن قراءة شكلارز مثمرة لأنها تفكّر ضد النسخ المحافظة أو التحرّرية من الليبرالية، وهي يسارية وليبرالية بالمعنى الأوسع، وليبراليتها مختلفة تماما عن النظريات اليسارية لأنها تقف على الضدّ من القمع الموجود في هذه النظريات والأيديولوجيات وتطبيقاتها العملية.

ومقالها هذا عن التمييز بين سوء الحظّ والظلم (غير كامل من المصدر لأنه بالأساس كتاب يبلغ حجمه 250 صفحة تقريبا) مقال رائد بموضوعه، فهذا التمييز يعتبر مشكلة سياسية بالفعل ولكن غالبا ما يتمّ التقليل من شأنها.

أترجم هنا مقطعا صغيرا لم يرد في هذا المصدر الألماني:

إنّ التمييز بين سوء الحظّ والظلم غالبا ما يتعلّق باستعدادنا وقدرتنا على التصرّف أو الاتّهام أو التبرئة نيابة عن الضحايا، أو المساعدة، جبر الخواطر أو الانكفاء“.

وأيضا:

من المستحيل وصف الضحايا، إنّهم ببساطة بشرٌ وجدوا أنفسهم في الزمن الخطأ، في المكان الخطأ، في المجتمع الخطأ“.

وبالنتيجة فإنّ مفهوم الضحية نفسه يبقى متناقضا يحمل معاني متضاربة في ظلّ التباين التاريخي لتعريف الظلم وكيفيّة تحديده، كما إنّ إضفاء الأيديولوجيات الاجتماعية للشرعية على الظروف غير العادلة يجعل من الصعب على المتضرّرين من تلك الظروف أن يُعرّفوا عن أنفسهم كضحايا وخاسرين عانوا من سوء الحظّ أو من التمييز ضدّهم.

المقال المترجم

ما العلاقة بين الأحداث الطبيعية والإخفاق البشري في كارثة مثل الزلزال في تركيا وسوريا؟ الإجابة على هذا السؤال توجد في مقال يوديث شكلارز Judith N. Shklars عن الظلم، والذي يعود لعام 1990.

“متى تكون الكارثة الطبيعية سوء حظّ ومتى تكون ظلما؟ بصورة بديهيّة، تبدوا الإجابة واضحة لنا، إذا كانت قوى الطبيعة الخارجية هي سبب الحادث المروّع، فهي سوء حظّ وعلينا أن نخضع لمعاناتنا. لكن إذا جلبها كائن بشري أو كائن خارق للطبيعة بنوايا شرّيرة، فهو ظلمٌ ويحقّ لنا أن نعبّر عن سخطنا وغضبنا. هكذا تحدث الأمور وهكذا عهدناها، لكنّ هذا التمييز الذي نتشبّث به بعناد لا يعني الكثير.”.

“تصبح الأسباب هنا واضحة، إذا ما تذكّرنا أنّه غالبا ما يتعلّق الأمر، بما إذا كنّا نعتبر أن المسألة تتعلّق بمسألة تكنولوجية أو أيديولوجية أو تفسيرا ما أو فيما إذا كنّا نعتقد أن الأمر شيءٌ طبيعي وحتمي لا يمكن تجنّبه أو أنه يمكن السيطرة عليه وتجنّبه. إنّ تصوّرات الضحايا وأولئك الجناة _سواء بشكل مباشر أو غير مباشر_ تميل إلى أن تكون مختلفة تماما. لا يُكابد المتضرّرون من الحقائق وما تعنيه، بنفس الطريقة التي يختبرها من هم مجرّد مراقبون أو أولئك الذين كان بإمكانهم تجنيب المعاناة أو تخفيفها. إن هؤلاء الناس بعيدون جدّا عن رؤية الأشياء بنفس الطريقة”.

“لا شكّ أن الزلزال هو حدث طبيعي. ولكن إذا حدث ضررٌ كبير وفقد الكثير من الناس حياتهم، فهذا ليس كل ما يُقال أو يمكن قوله عن الأمر بالفعل. سيُنظر إليه على أنه ظلمٌ لأسبابٍ عديدة مختلفة. المتديّنون سيلقون باللوم على الله “لماذا نحن؟”. يتذمّرون ويشتكون “نحن لسنا أكثر إلحادا من المدن الأخرى، فلماذا نُعاقبُ وحدنا؟ أو بشكل أكثر تحديدا وخصوصية “لماذا طفلي أنا؟

قد يكون هنالك، من بين الضحايا الأقلّ تديّنا، من يقول ببساطة “إن الطبيعة قاسية”، ومع ذلك فقد لا يكون هنالك الكثير ممن يعتقدون بذلك، لأنّ عالما مليئا بالصدف والتعسّف من الصعب تحمّله، وسيبحث القانطون اليائسون عن مسؤولين بشرا ومختلقين. لن يجدوا صعوبة في العثور عليهم، ومن المؤكّد أن كثيرين ساهموا في الكارثة وفاقموا من آثارها.

على سبيل المثال تنهار العديد من المباني لأنّ المقاولين انتهكوا معايير السلامة وقاموا برشوة المراقبين على البناء. نادرا ما يتمّ تحذير السكّان، بشكلٍ كافٍ، من مثل هذه المخاطر التي يُمكن التنبّؤ بها عبر أجهزة تقنية عالية التطوّر. علاوة على ذلك، فإن السلطات المسؤولة لا تقوم دائما باستعداداتٍ جادّة فيما يتعلّق بوقوع مثل هذه الأحداث، ما يعني أنّه ليست هنالك إجراءات إغاثة فعّالة ذات كفاءة، لا مساعدات طبّيةٍ كافية، ولا تتوفّر استعدادات متاحة لنقلٍ سريع للجرحى، كثيرون ممن كان يمكن إنقاذهم سيموتون”.

يوديث شكلارز Judith N. Shklars حول الظلم، استكشافات في الوجدان الأخلاقي (2021 [1990]).

Print Friendly, PDF & Email

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *