سليم بركات: العلاقة المشوّهة مع الحياة

” الموضوع يرتفع بالشكل، الشكل لا يرتفع بالموضوع ”

(تولستوي)

عبد الحميد محمد / سوريا

في حوارات برتولد برشت Bertolt Brecht والناقد الألماني فالتر بنيامين Walter Benjamin، اعتبر برشت كافكا، كاتباً فاشلاً، رغم عدّه كاتباً عظيماً، بل ومعجباَ به كممثّل أصيل للاغتراب.

خُيّر برشت من بنيامين، ليُنسب كافكا لأحد النمطين. نمط الفنان صاحب الرؤية الجادّ أو نمط الإنسان المفكّر بارد العقل والغير الجادّ؟

كان الحلّ مستحيلاً، فوجد برشت في كافكا كاتباً عظيماً فاشلاً.

لم يعثر كافكا على الشكل الخاصّ به، إلّا بعدما لجأ لديستويفسكي كمرشد روحيّ، ليزداد غموضا وتلوّثا، فيُكنيه برشت بالشخص الغير الدقيق، رغم امتلاكه لدقّة شخص حالم.

والتدقيق في سيرة سليم بركات، لن يُحمّلنا الكثير من الإجحاف والوزر، إن قاربناها برويّة وهدوء، مدفوعين بعشق لمنتج سليم بركات.

بحث سليم، عمّا يمنح منتجه الكمال، ليكتب بقلقٍ، كان صنواً لإبداعه ومحرّضاً للاهتداء لثوابت وجدانه وملهماً لوعيه الجمعي.

رزح تحت وطأة رُهاب التصنيف الأدبي الذي يسلبه حرّيته، في ارتياد الملغز الغامض، معتبرا تجاهل الرواية العربية للغامض العصيّ على الشعور، قصورا معرفيّا، فالنسق التعبيريّ الواحدٍ يحدّ من قدرته على تكثيف المعنى، لأنّه يمارس عليه سلطة التقنين من منطلق درء الفوضى، ليُنسبُ نفسه لـ ” المعرفية الواقعية “.

راجع مجمل النتاج الروائيّ العربيّ، رهبة روايته الأولى، لتأتي أولى إصداراته ديواناً شعريّاً كل داخل سيهتف لأجلي، وكل خارج أيضًا ، بتحفيزٍ من أدونيس، ثمّ بهلع ، جاءت / فقهاء الظلام / كفانتازيا غرائبية، متحدّثا فيها بمنطق عن اللا منطق الذي رافق الكرد في تاريخهم الحزين، أمّا / الريش /، فمُلغزٌ لغزُ مم آزاد، وصولا ل /كهوف هايدراهودا هوس /، حيث الفانتازيا المطلقة السراح من إرث الإنسان كلّه، فيما بعد الغيبوبة الإنسانية كلّها، مع أنّه غير معنيّ بالتوصيفات بحسب قوله ، ولكنّه يلجأ للتصنيف كلّما أراد أن يتعرّف على نفسه:

” لا أعرف من أنا خارج (الجندب الحديدي) و (هاته عالياً ; هات النفير على آخره) “

مهجوساً بالمغاير للمتداوَل، مُحتكماً للمتعارض فيه، نجح في دفع ثمن كبير، بافتضاض النقد عنه، وواعياً لما سمّاه / الجهالة العارمة / في الآخر، تعالى بمنتجه على جهالة المتلقّي.

عقلٌ بارد، غيابٌ للعفويّة، ثمّ  تحرير للعلامات اللغوية من سطوة المعنى الواحد، باستراتيجية الاختلاف والإرجاء المولّدتين لاستراتيجية الإخفاء التي يواري فيها النص هويّته عن القارئ العاجز عن الصول فيه.

في إنجيل مرقص لجأ المسيح للإيماء وللتمثيل، كي لا يفهم رسالته إلا المؤمنون ومن يستحقّون الخلاص.

مارس القطيعة مع المنتج الإبداعي العربي وأصحابه، مُجيّراً ذاته وروحه لهذا الهدف، ليشوّه علاقته بالحياة، مكتفيا بالعيش كدهقان وحيد في عزلته بغابات السويد، وحال لسانه:

إليّ أّيّها الجهلة! هيّا امتدحوني!

بدا سليم مكتفياً بلقب المعاون لمحمود درويش في الكرمل، كتوصيف وصفه به الراحل الكبير درويش.

قناعةٌ تناقضُ كمالا بحث عنه، منتجٌ منفتحٌ على بحر التأويلات، لا ينسجم مع نموذج وحيد أخذه كأيقونة لا تضاهيها قدوةٌ أخرى، في وقت تحاشى فيه أيّ أبوّة مفترضة بحسب أدونيس، ليختلق لنفسه أباً، ويتعلّم من درويش أن يكون قويّاً بمفرده، يفتقر لأية صداقات، مع أنّ درويش بنى صداقاته كلّها عبر الأدب.

غادر القامشلي، في ربيعه العشرين، لينقطع عن سيرورته الوجدانية، باعتراف منه.

كتب عن دُشم القمح التي كان يحرسها، بمقابل ماديّ ضئيل، هو ووالده الملاّ في صوامع حبوب القامشلي، لتشكّل الشاحنات بنيان قصيدة محكمة لغة وخيالا) تدابير عائلية (:

وأنا في اتّجاهي إلى الشاحنات الكبيرة، التي لم تَنْسَني، لا أَلِمُّ

الحقول بل أُذرذرُ الحقول في الهواء، وتحت إبطيَّ كيسي الذي سأجمع فيه المذابح متأمّلاً فراشات أعمارها.

وكان مؤمنا بما دوّنه:

تسهر المعجزة قرب الحريق الذي يُضرمه العاديّون

طفولة بلا طفولة وتاريخ يوجزه الألم:

إلهي

هؤلاء أكرادك، إلهي.

عانى من ضراوة دخوله للوسط الثقافي ببيروت، حتّى شكّك بعضهم في شرعية انتسابه إلى الكتابة العربية:

لأنني لم أفصل لأبي بنطالا يتماهى به مع الزي العربي وتركتُ امي في زيّ لا يشبه ما ترتديه نساء العواصم. ‏

حتّى والده الملّا وبحكم التأثير الدينيّ عليه، اعتقد جازماً أنّ الحقيقة ملكٌ للعرب وحدهم.

كتب في / كبد ميلاؤس /:

” سأحاول طوال عمري البرهان على وجوده، سأجتهد كي أُبرهن على أنه جدير بالكراهية. كل أب جدير بالكراهية، لأنّه أبٌ، لا غير، طيبٌ، رؤوفٌ، سمِحٌ، طاهِرٌ، رقيقٌ، غفورٌ.  “

انكسارات أفقدته طمأنينة لم تألفها عظامه:

“ما اليقين الذي يبسطُ عليّ شعاع الرحمة فأتنفّسه بعظامي، وقلبي، وظلّي، كلّما أضفتُ إلى السجلّ الخفيّ لمقتنيات عمري شيئاً لم يكن مدوّناً فيه؟ “

خسر الشمال محنته ونسي أن يمنح نفسه للحياة، ليستحقّ لقب رجل الخسارات الشمالية بمعناه الواقعي لا الشعري.

كتب عمّن في الشمال، بمعاتبات وفتاوى الطفل، ثمّ جافاهم ، لينتظر ساعي البريد، ينقل إليه ردود أفعالهم على ما رماهم به.

روايته الأخيرة / سبايا سنجار/، بداية اعتراف وإدراك أوّلي منه، بخلل ما، يُدرك ضرورة تداركه، سواء في مواضيعه أو طرائق معالجتها التي تغيب عنها التوجّهات المستقبلية، عدا عن عجزها عن إحداث أيّ أثر وجدانيّ انفعاليّ تفاعليّ على القارئ.

في عبور البشروش، عمر حاجو كرديّ، يغادر قريته السورية ” عين ديوار ” ليعترض على هواري بو مدين بعد اتّفاق الجزائر بين صدّام حسين وشاه إيران:

نحن مسلمون مثلك يا مولاي

بعد روايته / آلام فرتر /، استفاق غوته على جثة فتاة أمام منزله وبيدها نسخة من الرواية، رمت نفسها في النهر منتحرة. هل من فعل مشابه بتأثير عاطفيّ من سليم؟

موضوعات القرن التاسع في أولوية اهتماماته روحيا:

” أكتب بوحي من القرن التاسع، بوحي روحي التي هناك. “

يستجيرُ بمبرّرات ت. س. إليوت، في إعادة الروح لكلمات وحشية مهملة، لكن مشكلته تكمن في كيفية توظيفها، لا في تناوله الموضوع الكردي، ولا في تحريره الرواية من طابعها الحكائي، بل في روح ماضوية مشدودة للخلف، عليه أن يحرّرها، تجنّباً للنمطية التي باتت تسبغ عجائبيته، فالكلمات بيد اللا نهائيّ تتهلهل دقّتها.

لا تغريه سوى فتوحاتٌ لغوية، لتزيح المرجعية اللغوية أيّة عناصر أخرى:

” فلتكن الغرائبية سيّداً، إذاً، على ما لم يقله الواقعيون. “

يمكن له أن يكون رسول برهة يستعيدها القارئ بهيبة أكثر، لكن منهجه القائم على تذكيره سحراً وراء سحر ببوصلة البلاغة، يبعث على الضجر، ليزيد من نفور يولّده في الآخرين.

كان مدركاً لمساره حين قال بعمومية مخادعة:

لغة الأدب ستعود لغة دين منبوذ تُقرأ في كهوف.

لا تنبغي مواجهة سليم برحابة صدر لا يتوقّعها، فيحتاط من أن يخذله نصه. وحقاً لا يخذله نصه لكن نصوصه مجتمعة تخذله خذلاناً كبيراً.

لهفة الحذر التي تدرب عليها في تخوم القامشلي، وهو يطارد الطيور كصيّاد خائب، تدفعه ليُميد في النجوى والمعنى، وفي آجال الامتحان بلهفة اللانهائي.

يتماثل مع نفسه في كلّ ما شيّده، عبر شغف بالحجب وتشريد المعلوم من المعنى إلى حدّ الوهم.

السيطرة على المجاز علامة نبوغ شعريّ، لكن على المجاز أن يكون دقيقاً حين يغدو بدايةً للحكمة.

المحلل النفسي المجري توماس ستيفن ساس، انتقد استخدام اللغة في التنويم الاجباري على المرضى:

” حين يتقاتل شخصان للاستحواذ على مسدس فإن أول من يحصل على السلاح سيطلق النار، والخصم سيتلقى الطلقة ويموت. الحياة اليومية ليست على استحواذ الأسلحة بل الكلمات، الشخص الذي يستحوذ على الكلمة يفرض الواقع على الآخر.  “

وسليم عاشق المسدّسات، يحذرُ أن يُطلق عليه ناقدٌ ما النار يوماً، وكما شبّه نفسه بالمظلّة في سبايا سنجار، وكما قال:

” أنتِ مسلّيةٌ أيّتها المظلّة “

وبشكل دوريّ، تتكرّر مقالاتٌ تستجلي غموض عالم سليم الذي أعجبته اللعبة.

في توصيفه للمخرج Steven Spielberg، كتب سليم:

” أعطى سبيلبرغ لموضوعه مزيجا مدهشا من الواقع واللاواقع، في سياق فني راقٍ، وقد تحول هذا السياق مع مخرجين آخرين، إلى سياق رثّ، ممعن في المجانية. “

هذا صحيح، لكن سبيلبرغ أغوى كلّ جمهوره، على النقيض من سليم الذي نفر كلّ جمهوره، فالكمال يبعث على الملل، ونحن شغوفون بالمتعة أكثر من كمال لن يبلغه سليم.

 

ملاحظة :
نُشر المقال في مجلة الحوار الورقية و الالكترونية العدد /70/ – صيف 2017 .
هنا رابط تحميل العدد و طيّه المقال

Print Friendly, PDF & Email

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *