هابرماس وآخرون عن العداء للسامية في ألمانيا. مبادئ التضامن: تصريح

هابرماس وآخرون عن هجوم حماس يوم 7 أكتوبر

ترجمة: عبد الحميد محمد

Jürgen Habermas

13 نوفمبر 2023

13. November 2023

إنّ الوضع الحالي الذي خلّفه هجوم حماس الوحشي غير المسبوق وردّ فعل إسرائيل عليه، ادّى إلى سلسلة متتالية من المواقف والمظاهرات الأخلاقية والسياسية. نحنُ نعتقدُ انّه وعلى الرغم من جميع الآراء المتضاربة التي يتمُّ الإعرابُ عنها، فإنّ هنالك بعض المبادئ التي لا ينبغي أن تكون محلّ نزاع وخلاف. إنّها أساس التضامن المتفاهم عليه بشكل صحيح مع إسرائيل واليهوديّات واليهود في ألمانيا.

كلاوس غونتر Klaus Günther

لقد دفعت مذبحة حماس المدفوعة بنيّة معلنة لتدمير الحياة اليهودية عموما، إسرائيل إلى القيام بضربة مضادّة. أمّا كيفية تنفيذ هذه الضربة التي لها ما يُبرّرها من حيث المبدأ، فقد نُوقشت بشكلٍ مثير للجدل. يجب الاسترشاد بمبادئ تناسبية، تجنّب وقوع ضحايا بين المدنيّين، وشنّ حرب على أمل إحلال السلام مستقبلا. لكن وعلى الرغم من كلّ القلق على مصير السكّان الفلسطينيّين، فإنّ معايير الحكم تتراجع كلّيا إذا ما تمّ نسب نوايا الإبادة الجماعية إلى تصرّف إسرائيل.

Rainer Forst

على وجه الخصوص، فإنّ تصرّفات إسرائيل لا تبرّر بأي حال من الأحوال نغمة الأفعال المعادية للساميّة، ولا سيما في ألمانيا. ممّا لا يُطاقُ ويُحتمل أن تتعرّض اليهوديّات واليهود في ألمانيا مرّة أخرى إلى التهديد جسديا وفي حياتهم وأن ينال منهم الخوف من العنف الجسدي في الشوارع.

Nicole Deitelhoff

إنّ الصورة الذاتية الديمقراطية لجمهورية ألمانيا الاتّحادية القائمة على أساس الالتزام باحترام الكرامة الإنسانيّة ترتبط بثقافة سياسيّة تنظر- في ضوء الإبادة الجماعية لليهود في الحقبة النازية- إلى الحياة اليهوديّة ووجود إسرائيل كعنصرين مركزيّين جديرين بالحماية بشكل خاص.  إنّ الالتزام بذلك أمرٌ أساسي لتعايشنا السياسي المشترك، والحقوق الأساسيّة في الحرية والسلامة البدنيّة مثلها مثل الحماية من التشهير والتشويه العنصري غير قابلة للتجزئة وتسري على الجميع بالتساوي. يجب أن يلتزم بذلك أيضا أولئك الذين يُقيمون في بلادنا، ممّن زرعوا مشاعر ومعتقداتٍ معادية للساميّة متستّرين وراء كل أنواع الذرائع والآن يرونها فرصة مؤاتيّة للتعبير عنها دون رادع.

نيكول ديتهوف Nicole Deitelhoff

راينر فورست Rainer Forst

كلاوس غونتر Klaus Günther

يورغن هابرماس Jürgen Habermas

المصدر

نيكول ديتهوف Nicole Deitelhoff

هي عالمة سياسية ألمانيّة وأستاذة جامعية، ترأّست مؤسسة لايبنتز لأبحاث السلام والصراع.

راينر فورست Rainer Forst

عالم سياسي وفيلسوف ألماني، أستاذ النظرية السياسية والفلسفة في جامعة غوته بفرانكفورت، يهتم بالنظرية السياسية والفلسفة العمليّة والنظرية النقدية.

كلاوس غونتر Klaus Günther

محامٍ وقانوني ألماني وأستاذ القانون الجنائي في جامعة غوته بفراكفورت ماين، ينتمي إلى الجيل الثالث لمدرسة فرانكفورت النقدية الشهيرة.

يورغن هابرماس Jürgen Habermas

فيلسوف وعالم اجتماع ألماني هو الأشهر في العالم، ينتمي إلى الجيل الثاني من مدرسة فرانكفورت النقدية، معروف بنظريته عن الفعل التواصلي.

زلزال سوريا وتركيا. “سوء حظّ أم ظلم؟”

“الخيانة، الغدر، الظلم والقسوة التي لا معنى لها هي رذائلنا العاديّة”

مونتين عن أكلة البشر

 

إعداد وترجمة: عبد الحميد محمد

 

يوديث شكلارز (1928-1992)

 عن المنفى واللاجئين والجنسيّة

الفيلسوفة والعالمة السياسيّة اللاتفيّة يوديث شكلارز Judith N. Shklars المولودة عام 1928 في ريغا Riga عاصمة لاتفيا (الجمهورية السوفياتية السابقة) ركّزت اهتمامها على الليبرالية التي من شأنها أن تمنع الظلم والقسوة، حتّى شكّلت استثناء في الفكر السياسي الفلسفي في أمريكا بمنظورها عن الواقعية المتشكّكة.

تتميّز شكلارز بأنّها لا تضع إجاباتٍ نهائيّة ولا تصمّم أنظمة كبيرة، لكنّها تعمل على نمطٍ من التفكير السلبي المتشكّك على الدوام يرفض الانغماس في التقاليد الكلاسيكيّة ويبحث عن بداية جديدة. حين قرّرت الانشغال بالدراسات المتعلّقة بنهاية الأيديولوجيّات الكبرى ونقد ليبرالية الحرب الباردة ونهاية التاريخ توفّيت فجأة بنوبة قلبية. لكنّها مع ذلك استطاعت أن تُصبحّ منظّرة أصيلة لليبرالية، بعد أن امتلكت معرفة واسعة وعميقة بالتاريخ الفكري.

هربت من مسقط رأسها إلى السويد ثم إلى اليابان عبر سيبيريا ثمّ إلى الولايات المتّحدة الأمريكيّة، وأخيرا إلى كندا قبل أن تقوم بدراسة الماجستير بالعلوم السياسية في العام 1951 بجامعة هارفارد Harvard University التي عملت فيها بمنصب دائم لمدّة 35 عاما، لكنّها ،ومنذ العام الأول، كانت زميلة جامعية لكلّ من وزير الخارجية الأمريكي الأشهر هنري كيسنجر  Henry Kissinger والمفكّر الراحل صموئيل هنتنغتون Samuel Huntington صاحب نظرية صراع الحضارات، وزبغنيو بريجينسكي Zbigniew Brzeziński مستشار الأمن القومي للرئيس الأمريكي جيمي كارتر .

قامت شكلارز في أمريكا بدراسة المنفى وحالة اللاجئين، فشملت حتى المعارضين في الداخل ضمن “المنفيّين” إضافة إلى اللاجئين السياسيّين والاقتصاديّين. ميّزت شكلارز في المنفى بين “الولاء” و”الالتزام”. الولاء هو ما يربط عاطفيا بين مجموعة ما وفكرة أو بلدٍ ما، بينما الالتزام فيتعلّق بمنطق القواعد والقوانين ومدى الخضوع لها.

حتى بما يتعلّق بمصطلحي الهروب والهجرة، رأت شكلارز فيهما خلطا كبيرا، لتشير إلى “الولاءات المشتركة” التي يجب على المجتمعات الليبراليّة تقبّلها لأنّ الولاء لبلد المنشأ ليس فيه ما يعيبه بل موقف سليم، أما فيما يتعلّق بالالتزام فلا يجوز لأنّ بلد المنشأ قد قام بخيانة اللاجئين.

لأجل ترويض الولاء السياسي قبل مطالبة المنفيّين واللاجئين به، تقترح شكلارز منحهم الجنسيّة:

إذا كانت الجنسيّة في أيّ بلد، كما اقترحت حنّه أرندت Hannah Arendt، حقّا ضروريّا للإنسان، في قرننا، لأنّ الآخرين يعتمدون عليه، فإنّ تقديم الجنسية للمنفيّين قد يبرهن على أنّه أهمّ وسيلةٍ لترويض الولاء السياسي“.

تنطلق شكلارز في ذلك من النظر إلى منح الجنسية كفعل اعتراف سياسيّ وأساسي يجب أن يسبق أيّ مطالبة بالولاء المطلق. كما إنها تنطلق من ضرورة ألا تكون العضويّة في نظامٍ سياسيٍّ ليبرالي مرتبطة بروابط الولاء الداخلي أو الانتماء لمجموعة عرقيّة أو ثقافية أو دينية، وألا تكون مشروطة بلون البشرة أو الجنس أو القدرات البدنية. ما تنطلق منه نابعٌ أيضا من قناعتها بأنّ “الاستبعاد سمة حتميّة وأساسيّة” تواجه المنفيّين واللاجئين، ولذلك دعت لحوار بين المنفيّين والمواطنين.

ليبراليّة الخوف وليبراليّة الأقليّات الدائمة

الأسئلة الفلسفية الأكثر إثارة للاهتمام في القرن العشرين والتي عملت شكلارز على الإجابة عنها كانت: الظلم، الكارثة، المصير، الجرم والخطأ.

ما ميّز فلسفة شكلارز عن فلسفة حنّه أرندت هو رفضها للافتراضات الميتافيزيقية الكبرى وحتى للبرامج السياسية، ليذهب ناشرها الألماني هانز باجور Hannes Bajohr للقول إنّ “دراسة شكلارز تشبه شرب كوبٍ من الماء البارد“.

عدّت شكلارز القسوة ذلك الشكل الأعظم للظلم الذي يجب تجنّبه، ما دفعها للكتابة عن ذلك بوضوحٍ، بعيدا عن الحذلقة المبنيّة على المصطلحات التي ميّزت معظم فلسفات القرن العشرين، فذهبت لانتقاد الليبرالية الجديدة Neoliberalismus في وقت مبكّر جدا انسجاما مع قناعاتها، وأكّدت باستمرار أنّ جوهر الليبرالية وأساسها أنّها “ليبرالية الأقليّات الدائمة Liberalismus der permanenten Minderheiten”، فاقترحت أن تقتصر الليبرالية على السياسة وتعمل على تقديم مقترحات تمنع إساءة استخدام السلطة لتخليص النساء والرجال البالغين من الخوف وتحرّرهم من التحيّز، ليتمكّنوا من العيش وفقا لميولهم وقناعاتهم، لتتوافق بذلك مع جون رولز في اعتبار الليبرالية “سياسيّة وليست ميتافيزيقيّة“. انبثقت الصيغة الأولى من ليبرالية الأقليّات الدائمة من اهتمامها بمحاكمات نورنبرغ Nürnberger Prozesse التي أعطتها أهمّية كبيرة لما لاحظته فيها من تعاملٍ وتعاطٍ  بأيديولوجيّة الاكتفاء الذاتي بالقانون مقابل الخطابات السياسية والأخلاقية والتي وصفتها بالشرعويّة Legalismus التي تتقيّد بالشرائع والقوانين حرفيّا، حيث كانت سلبيّة كعادتها في هذه الليبرالية التي تستغني إلى حدّ بعيد عن الافتراضات الأساسيّة الإيجابية، مشيرة إلى أنّ المنظور الأخلاقي للمجموعات الهامشيّة وحدها هو ما يستحقّ ويجب أن يكون نموذجا معياريّا وتوجيهيّا.

وجّهت شكلارز انتقاداتٍ قويّة عديدة إلى الليبرالية الجديدة، أوّلها أنها طريقة تفكير ساذجة تاريخيّا، وثانيها أنّها متفائلة بشكلٍ مفرط مع أنّ التاريخ نادرا ما تحدّث عنها، ولذلك فهي لا تزال مهدّدة بالاختفاء، وثالثها أنّ أفكار الليبرالية وتصوّراتها عن الحرّية غاية في التبسيط تركّز كثيرا على الحرّية الفردية بمفهومها الأناني البحت.

تتمثّل الشروط الأساسية للحرية لدى شكلارز في القدرة على العيش دون خوف ودون قسوة وجبروت، وقد تكون تدابير دولة الرفاهية والمواطنة النشطة والمسؤولة ضرورية لضمان تلك الشروط.

ومع أنّ شكلارز كانت قد فرّت من النازيّين (بعد احتلالهم للسويد) ومن ستالين، فإنّها وإن اعتبرت أنّ الدولة أكبر مصدر للخوف والقسوة، لكنّها أكّدت على أنّ الدولة لها وظائف حماية مهمّة، فالحياة خارج الدولة ستكون أكثر قسوة.

شكلارز حملت قراءة مختلفة وآمالا مختلفة عن الآخرين من الليبرالية وتتمثّل في منع القسوة، ولذلك لجأت لكتابة مقالها الأشهر في الغرب “ليبرالية الخوف” عام 1989. كتبت تقول:

أن تكون على قيد الحياة يعني أن بك خوف“.

هذا يعني أن نقطة البداية في الليبرالية تبدأ من الشعور السلبي تحديدا، ويعني الحاجة إلى ليبرالية قادرة على منع الخوف من أن يصبح المزاج السائد، وتسمح لكلّ فرد بكتابة قصّة حياته بحرية بعد أن تمنع الخوف من العنف والمصاعب الاجتماعية. ليس بالضرورة أن تحمل قصة كل فرد في الليبرالية نهاية سعيدة لما يمتاز به البشر من هشاشة، ولكنّها يجب تكون قادرة على تأمين ما وصفه ايزايا برلين Isaiah Berlin “حدّ أدنى معيّن من الحرية الشخصيّة، لا يمكن انتهاكه بأي حالٍ من الأحوال“. أن نعيش في خوف يعني أننا بالأساس غير أحرار. تقول شكلارز:

نحن نخشى مجتمعا من البشر الخائفين. الخوف المنهجي للجماهير يجعل حرية الإنسان مستحيلة“.

الخوف من الزلزال، الخوف من الحروب، الخوف من الإفقار، الخوف من الإبادة العرقية، الخوف من الانحباس الحراري وتغيّر المناخ، مخاوف لا تنتهي في المجتمعات البشرية المعاصرة تمنح مخاوف شكلارز شرعية كبيرة وتخلق تحدّياتٍ وجودية كبيرة على الليبرالية لتتحوّل لليبرالية الأمل.

يقول آكسل هونيث Axel Honneth:

حين يتمّ الحديث عن الليبرالية السياسية، فالمقصود قبل كل شيء هو المشروع النظري للعدالة لجون رولز John Rawls أو الجمهوريانية الليبرالية liberale Republikanismus لحنّه أرندت. نادرا ما يتم الأخذ في الاعتبار أنّ هنالك عددا من البدائل الأخرى لتأسيس الليبرالية، والتي تنطلق من منطلقاتٍ وأرضيات مختلفة تماما، وبالنظر إلى كتابات يوديث شكلارز الهامّة وقبل كلّ شيء “ليبرالية الخوف” سرعان ما يتّضح أنّها انتهجت مسارا بديلا لتأسيس الليبرالية“.

على العكس من رولز وأرندت رأت شكلارز أنّ التفوّق الأخلاقي لليبرالية على كلّ التصوّرات السياسية الأخرى المتعلّقة بالنظام يجب أن يسمح لها بتجنّب ومنع الضرر للبشرية بحكم ما تمتلكه من آليّاتٍ مؤسساتية، وإذا كانت عاجزة عن تحقيق الأمنيات أو ما هو مرغوب فيه من ظروف، فعليها أن تنجح في منع ما هو أسوأ.

يرى هونيث أنّ شكلارز ورغم احترامها الكبير لجهود جون رولز الفلسفية إلا إنّها التقت واتّفقت مع حنّه أرندت على أن مشروعية البيانات العامة لا تتأتّى إلا عبر تشريح خارجي لكلّ ما هو مشترك بين أكبر عدد ممكن من الحالات الفردية، كما إنّ تجربة الاقتلاع من الجذور التي عاشتاه كلاهما قد ساهمت في التشكّك بأيّ نهج لا يأخذ في الاعتبار حالة الظروف المحلّية والتاريخية في الانتقال السريع من العام إلى الخاص. من الواضح أن صفاتهما وفضائلهما الشخصية لعبت دورا في تحليل العمل السياسي وسيرتيهما الفكرية والعمل بشجاعة ضد التهديد الشمولي وضد عنف الدولة.

يشير هونيث إلى القرابة الروحية بين شكلارز وأرندت في دراساتهما البارعة عن الشخصية، والتي تستخدمان فيها اقتباسات وأمثلة من الروايات الكلاسيكيّة لجين أوستن Jane Austen أو فولكنر أو ديكنز Dickens لاستكشاف الحدود الدقيقة بين ما هو مجرّد سماتٍ شخصيّة غير مريحة والسلوك الضارّ ديمقراطيّا.

لطالما دافعت شكلارز عن نظرية سياسية ليبرالية تكون على اتّصال وثيق بالحياة الحقيقيّة.

عن الظلم وسوء الحظّ والمصير

تميّز شكلارز بين سوء الطالع وبين الظلم، فسوء الطالع يعني أنّه ليس هنالك مسؤولون عن الكارثة، أمّا الظلم فينطلق من مدى مشاركة ومساهمة البشر في الكارثة سواء كانت تلك المساهمة ضمنيّة أو صريحة.

هذا التمييز لدى شكلارز يمتاز بنوعٍ من المرونة التاريخيّة، فما كان كارثة طبيعية وسوء حظّ قبل مائة عام قد يكون اليوم ظلما، فالتقنية وأدوات الدولة يجب أن تساهم في منع وقوع الضحايا وتقديم المساعدة لهم، فالوباء مثلا لم يعد بإمكاننا عدّه ظاهرة طبيعية وسوء حظّ لأن الإجراءات الخاطئة في التعامل معه يحوّل الكارثة وسوء الحظّ إلى ظلم. الحدود بين الطبيعي وغير الطبيعي لدى شكلارز هي نفسها قابلة للتغيّر تاريخيّا، فلون البشرة قد يكون طبيعيّا لكنّ عواقبه ليست طبيعية.

يأتي الظلم أحيانا من الإغفال والإهمال وعدم القيام بما كان يجب القيام به وإنجازه من قبل الجهات الحكومية الفاعلة والمسؤولة، كما في حالة الكوارث ومنها الزلزال أو الكورونا في حالة الوباء، فهذه الجهات ستكون غير عادلة في حالة عدم تقديم المساعدة اللازمة في الكوارث وعدم القيام بمعالجة الوباء وعدم القيام بحملات تطعيم وتلقيح ضرورية.

لكن حتى المواطنين قد يُساهمون في الظلم إذا خيّبوا التوقّعات فيهم كمواطنين مسؤولين عليهم الدفاع عن أقرانهم وإخوانهم الآخرين من البشر.

على عكس معظم الفلاسفة الآخرين، فإن الظلم لدى شكلارز يسبق حتى العدالة، فالفلاسفة الآخرون ركّزوا على العدالة في المقام الأول مع النظر للظلم كمجرّد نقيض للعدالة.

ليس هنالك مفهوم مفصّل واضح عن العدالة، والعدالة أقرب إلى تميمة مجرّدة بينما نشعر بالظلم بشكلٍ ملموس، ونحن نقول إن “هذا غير عادل” أكثر مما نقول إنّ “هذا عادل”.

رأت شكلارز أنّ ما وصفته بـ “نموذج العدالة العادي” يتعامى عن جميع أشكال الظلم التي لا تتناسب ونظامه ولا ينصّ عليها هذا النظام، وبالتالي فإنّ التركيز على الظلم يلعب وظيفة كبيرة في تصحيح نظريات العدالة وتوسيع مجالات وأفق رؤيتها. قضية التحرّش الجنسي مثلا قضية جديدة على العدالة، تطوّرت حديثا ولا تلاحظها نظريات العدالة المجرّدة كثيرا حتى غدت قضية ظلم وظاهرة تخضع للاعتبارات السياسية والأخلاقية فقط.

شكلارز لا تقدّم، بل لا تستطيع أن تقدّم قواعد صارمة للتعرّف على الكوارث وتصنيفها بين كونها سوء طالع أو ظلما يجب القضاء عليه أو على الأقلّ تحديده، ولذلك فهي لا تهتمّ بإعادة تقييم جميع كوارث العالم كنوع من الظلم، ولا تقدّم حججا وجوديّة على ذلك، فالظلم وما هو غير عادل يقرّره في نهاية الأمر الخطاب السياسي والمرسوم السياسي لا المرسوم الفلسفي.

دعت شكلارز إلى توسيع دائرة اللا مفكّر فيه عبر هذا التمييز بين الكارثة الطبيعية والظلم واللا عدالة، وهذا يعني أنه يجب الاستماع إلى كلّ الأصوات التي تشتكي من الظلم بدلا من قمعها وحتّى توبيخها كما يحصل الآن في كثير من الكوارث، لكنّها نوّهت إلى أنه ليس كلّ ادّعاء بالتعرّض للظلم له ما يبرّره، كما إنّ من يستغلّ الآخرين اليوم قد يتعرّض هو نفسه للظلم لاحقا حين يفقد امتيازاته وتتمّ معاملته معاملة غير عادلة.

عن الضحيّة والجناة

أشارت شكلارز إلى أنّ الفلسفة عبر تاريخها نادرا ما اهتمّت بمنظور الضحايا بل اهتمّت بالجناة أكثر، وهؤلاء الجناة كثيرا ما يتمّ اعتبارهم ضحايا بسبب اضطّراب روحي أو نفسي، ما يعني أنّ هؤلاء الجناة أو الفاعلين كانوا هدفا للعقاب أو التفهّم لتحسين سلوكهم.

أمّا الضحايا فقد تمّ الاهتمام بهم وبحالتهم ببطءٍ كبير جدا عبر التاريخ إلى أن أصبح الاهتمام يتركّز عليهم أكثر فأكثر، والظلم الذي يُحيق بالضحايا والشعور بالظلم عموما غالبا ما يشكّل رؤية خلفيّة فقط لنظريات العدالة التي تعجز مفاهيمها القانونية عن إيجاد الإطار المناسب لاستيعاب التجارب الذاتية في الظلم.

لشكلارز مفهوم خاص ودقيق عن الضحيّة، فالضحية لديها لا هويّة لها ولا تحمل وصفا ثابتا، بل إنها من فئة ديناميكيّة بحيث أن كلّا منّا يمكن أن يُصبح ضحيّة، ولذلك فإنّ من مصلحة الجميع ألا يتجاهل الضحايا كلّما كان ذلك ممكنا، وهذا يعني أن المسألة لا تتعلّق بالأخلاق في المقام الأول بقدر ما تتعلّق بالديمقراطية، فالديمقراطية تعني الاستماع لشكاوى ووجهات نظر وآراء الجميع، والضحايا مواطنون محرومون مما يحقّ لهم ويمنحهم إيّاه النظام الديمقراطي، وحرمانهم من هذا الحقّ يشكّل انتهاكا للديمقراطية.

مع هذا المفهوم عن الضحيّة والضحايا والذي لا يقدّم إجاباتٍ واضحة، ولا خطوطا فاصلة بين سوء الحظّ والظلم يبدو الأمر محبطا جدا، ولكن هنا بالذات تكمن قوّة شكلارز كما يؤكّد ناشرها الألماني هانز باجور Hannes Bajohr، فهي ليست دوغماتية على الإطلاق، ولا تملك الحلول الأمثل، بل تشير إلى تعقيد المسألة ودقّتها قبل كلّ شيء، تمارس التفكير لمنع ما هو أسوأ على الأقل حتى وإن كانت لا تملك تعليمات واضحة للعمل على المسألة. أكّدت شكلارز على أهميّة تشخيص المشكلات بدقّة بدلا من تقديم حلولٍ مفرطة في التفاؤل.

باجور يؤكّد على أن قراءة شكلارز مثمرة لأنها تفكّر ضد النسخ المحافظة أو التحرّرية من الليبرالية، وهي يسارية وليبرالية بالمعنى الأوسع، وليبراليتها مختلفة تماما عن النظريات اليسارية لأنها تقف على الضدّ من القمع الموجود في هذه النظريات والأيديولوجيات وتطبيقاتها العملية.

ومقالها هذا عن التمييز بين سوء الحظّ والظلم (غير كامل من المصدر لأنه بالأساس كتاب يبلغ حجمه 250 صفحة تقريبا) مقال رائد بموضوعه، فهذا التمييز يعتبر مشكلة سياسية بالفعل ولكن غالبا ما يتمّ التقليل من شأنها.

أترجم هنا مقطعا صغيرا لم يرد في هذا المصدر الألماني:

إنّ التمييز بين سوء الحظّ والظلم غالبا ما يتعلّق باستعدادنا وقدرتنا على التصرّف أو الاتّهام أو التبرئة نيابة عن الضحايا، أو المساعدة، جبر الخواطر أو الانكفاء“.

وأيضا:

من المستحيل وصف الضحايا، إنّهم ببساطة بشرٌ وجدوا أنفسهم في الزمن الخطأ، في المكان الخطأ، في المجتمع الخطأ“.

وبالنتيجة فإنّ مفهوم الضحية نفسه يبقى متناقضا يحمل معاني متضاربة في ظلّ التباين التاريخي لتعريف الظلم وكيفيّة تحديده، كما إنّ إضفاء الأيديولوجيات الاجتماعية للشرعية على الظروف غير العادلة يجعل من الصعب على المتضرّرين من تلك الظروف أن يُعرّفوا عن أنفسهم كضحايا وخاسرين عانوا من سوء الحظّ أو من التمييز ضدّهم.

المقال المترجم

ما العلاقة بين الأحداث الطبيعية والإخفاق البشري في كارثة مثل الزلزال في تركيا وسوريا؟ الإجابة على هذا السؤال توجد في مقال يوديث شكلارز Judith N. Shklars عن الظلم، والذي يعود لعام 1990.

“متى تكون الكارثة الطبيعية سوء حظّ ومتى تكون ظلما؟ بصورة بديهيّة، تبدوا الإجابة واضحة لنا، إذا كانت قوى الطبيعة الخارجية هي سبب الحادث المروّع، فهي سوء حظّ وعلينا أن نخضع لمعاناتنا. لكن إذا جلبها كائن بشري أو كائن خارق للطبيعة بنوايا شرّيرة، فهو ظلمٌ ويحقّ لنا أن نعبّر عن سخطنا وغضبنا. هكذا تحدث الأمور وهكذا عهدناها، لكنّ هذا التمييز الذي نتشبّث به بعناد لا يعني الكثير.”.

“تصبح الأسباب هنا واضحة، إذا ما تذكّرنا أنّه غالبا ما يتعلّق الأمر، بما إذا كنّا نعتبر أن المسألة تتعلّق بمسألة تكنولوجية أو أيديولوجية أو تفسيرا ما أو فيما إذا كنّا نعتقد أن الأمر شيءٌ طبيعي وحتمي لا يمكن تجنّبه أو أنه يمكن السيطرة عليه وتجنّبه. إنّ تصوّرات الضحايا وأولئك الجناة _سواء بشكل مباشر أو غير مباشر_ تميل إلى أن تكون مختلفة تماما. لا يُكابد المتضرّرون من الحقائق وما تعنيه، بنفس الطريقة التي يختبرها من هم مجرّد مراقبون أو أولئك الذين كان بإمكانهم تجنيب المعاناة أو تخفيفها. إن هؤلاء الناس بعيدون جدّا عن رؤية الأشياء بنفس الطريقة”.

“لا شكّ أن الزلزال هو حدث طبيعي. ولكن إذا حدث ضررٌ كبير وفقد الكثير من الناس حياتهم، فهذا ليس كل ما يُقال أو يمكن قوله عن الأمر بالفعل. سيُنظر إليه على أنه ظلمٌ لأسبابٍ عديدة مختلفة. المتديّنون سيلقون باللوم على الله “لماذا نحن؟”. يتذمّرون ويشتكون “نحن لسنا أكثر إلحادا من المدن الأخرى، فلماذا نُعاقبُ وحدنا؟ أو بشكل أكثر تحديدا وخصوصية “لماذا طفلي أنا؟

قد يكون هنالك، من بين الضحايا الأقلّ تديّنا، من يقول ببساطة “إن الطبيعة قاسية”، ومع ذلك فقد لا يكون هنالك الكثير ممن يعتقدون بذلك، لأنّ عالما مليئا بالصدف والتعسّف من الصعب تحمّله، وسيبحث القانطون اليائسون عن مسؤولين بشرا ومختلقين. لن يجدوا صعوبة في العثور عليهم، ومن المؤكّد أن كثيرين ساهموا في الكارثة وفاقموا من آثارها.

على سبيل المثال تنهار العديد من المباني لأنّ المقاولين انتهكوا معايير السلامة وقاموا برشوة المراقبين على البناء. نادرا ما يتمّ تحذير السكّان، بشكلٍ كافٍ، من مثل هذه المخاطر التي يُمكن التنبّؤ بها عبر أجهزة تقنية عالية التطوّر. علاوة على ذلك، فإن السلطات المسؤولة لا تقوم دائما باستعداداتٍ جادّة فيما يتعلّق بوقوع مثل هذه الأحداث، ما يعني أنّه ليست هنالك إجراءات إغاثة فعّالة ذات كفاءة، لا مساعدات طبّيةٍ كافية، ولا تتوفّر استعدادات متاحة لنقلٍ سريع للجرحى، كثيرون ممن كان يمكن إنقاذهم سيموتون”.

يوديث شكلارز Judith N. Shklars حول الظلم، استكشافات في الوجدان الأخلاقي (2021 [1990]).

الفلسفة وأسلوب برشلونة

الفلسفة وأسلوب برشلونة

هانز أولريش غومبريخت HANS ULRICH GUMBRECHT

ترجمة وتقديم:

 عبد الحميد محمّد/سوريا

تقديم قصير من المترجم:

أن يكتب فيلسوفٌ ما عن كرة القدم فليس في الأمر مفاجأة كبرى خاصة حول شعبية كرة القدم كما فعل الكاتب الأوروغوياني إدواردو غاليانو Eduardo Galeano وغيره.

لكن أن يكتب فيلسوف عن كرة القدم بصورة المحلّل العارف بتكتيكات كرة القدم وأساليبها ومهاراتها وخفايا كلّ فريق، مثلها مثل خفايا المدرّبين وما يميّز كلّا منهم من خطط واستراتيجيّات ثم يُحيل ذلك إلى قراءةٍ فلسفيّة، فحكما لن يبقى الأمر طبيعيّا أبدا.

هانز أولريش غومبريخت HANS ULRICH GUMBRECHT، الكاتب والفيلسوف والصحفي الألماني وبعد ذهابه للإقامة في أمريكا والتدريس في جامعاتها أصبح مشجّعا لكرة القدم الأمريكية، ليكتشف هناك أنّ الأمريكيّين حين يتحدّثون عن كرة القدم يتحدّثون عن زمن استحواذ الكرة، ولكنّهم حين يتحدّثون عن الجنس فهم يتحدّثون عن مدى خطورته من دون واقٍ ذكري، كأنّما يتحدّثون عن الجنس حين يتحدّثون عن كرة القدم.

تشكّل له كرة القدم جزءا من الظواهر الثقافية ولذلك فإنّ ما يهمّه في كرة القدم هي الكفاءة والجانبين الجمالي والمهني فيها، وما قدّمه اللاعب البرازيلي مانويل فرانسيسكو دوس سانتوس المعروف بلقب (غارينشيا Garrincha) يشكّل له معيارا ومقياسا ليس كمستوى عالٍ بل كمستوى متوسّط مقبولا في حدّه الأدنى، وهو ينظر لفريق كرة السلّة الأمريكي هارلم غوبتروترز Harlem Gobtrotters كفريقٍ غايته اللعب الجميل فقط، وما يُضفي الجمال على أيّة لعبة بالنسبة إليه هي إرادة الفوز لدى الفريقين المتنافسين مع أنّه ليس بالضرورة أن يفوز الفريق الذي يلعب بشكلٍ أجمل.

كتب غومبريخت كتابين عن الرياضة منها كتابه “مديح الرياضة Lob des Sports” الذي صدر عام 2016 وأثار جدلا حادّا، وهذا ما دفع اللجنة الثقافية في الاتحاد الألماني لكرة القدم لتنظيم جلسةٍ حوارية بينه وبين مدرّب فريق تشيلسي الحالي  توماس توخل Thomas Tuchel في العام 2017، بينما حمل كتابه الآخر عنوان “حشود الاستاد Stadium Crowds”.

غومبريخت في الجلسة الحوارية مع توخل

أمّا أحد أكثر أمنياته فهي فوز منتخبٍ أفريقيّ ببطولة كأس العالم، فهذا من شأنه أن يقلّل من التهميش الذي تعانيه القارّة الأفريقيّة، ليصف أمنيته بأنّها رومانسيّة اجتماعية، وهذه الرومانسيّة كثيرا ما تدفعه للكتابة عن الفقر في العالم.

كثيرا ما تراه ينتقد الأكاديميّات المتخصّصة بكرة القدم مشمئزّا من المقارنات المشروطة للمثقّفين عند حديثهم عن كرة القدم كأن يقول له أحدهم: أنت لا تفهم شيئا من كرة القدم إذا لم تتحدّث عن فابيو كابيلو Fabio Capello (مدرّب إيطالي).

نظرية هانز أولريش غومبريخت عن الإبداع في كرة القدم

وُصفت نظريته بـ “المفارقة الإبداعية لكرة القدم المعاصرة“، فهو يرى في هذه النظرية أنّ الإبداع في كرة القدم يحتضر، فـ “كلّما لُعبت كرة القدم بشكلها النموذجي (تكتيكات وتشكيلة اللاعبين ونظام اللعب) الأمثل، كلّما باتت الحاجة إلى الإبداع أكثر إلحاحا (لخلق التحدي وأحداثٍ غير منتظرة وغير متوقّعة)، وبالتالي كلّما زادت صعوبة الأمر على اللاعبين المبدعين“.

وقد اعتبر أن بطولة كأس العالم التي أُقيمت في جنوبي أفريقيا عام 2010 قد أكّدت نظريته، حيث انخفض معدّلُ تسجيل الأهداف بشكلٍ كبير لدرجة أنّ المعلّقين أُصيبوا بالإحباط الذي دفعهم للادّعاء بأنّ كرة القدم لم تعد جذّابة، في وقتٍ يرى فيه غومبريخت أنّ متوسّط معدّل اللياقة البدنية في هذه البطولة كان الأعلى وكذلك الحال بالنسبة للمهارات الفنّية والتكتيكات حيث كانت أعلى بكثير مما كانت عليه من أيّ وقت مضى، ولكن هذا جعل الدور المحتمل للنجوم كميسي أو رونالدو حرجا متأزّما بل وحتّى نادرا.

لكنّ غومبريخت يؤكّد أنه ليس بالضرورة أن يؤدّي ذلك إلى عدم بروز المزيد من اللاعبين النجوم ولكن شروط قدرة اللاعب على أن يتميّز عن باقي فريقه ليصبح نجما مبدعا باتت أكثر صعوبة وتعقيدا وبات ذلك نادرا، كما إنّ احتمالات إيقاف النجوم عبر نظام اللعب زادت أكثر عمّا كانت عليه الحال سابقا بفرض مراقبة مشدّدة عليهم.

سُئل غومبريخت عن تفسيره لعدم نجاح ميسي في المنتخب الأرجنتيني رغم نجاحه الكبير في برشلونة، فأشار إلى النكتة التي تقول:

من يمكنه إيقاف ميسي؟ عبر مارادونا

فهو يرى أنّ ماردونا كان مدرّبا سيّئا ولكن حتى لو لم يكُ مدرّبا سيّئا فإن الشروط والظروف التي وُفرت لإبداع ميسي في برشلونة لم تتوفّر في منتخب الأرجنتين.

يُسهب غومبريخت في تفسيره ليؤكّد على أن ذلك الجيل الذهبي لبرشلونة قد تمّ إعداده عبر عمليّة تطويرٍ طويلة جدّا ومشتركة جعلتهم يطوّرون من أنفسهم وينمّون قدراتهم بشكل متزامن وبحيث يكمّلون أنفسهم في طريقة اللعب، فـ “تشافي” و” إنييستا ” لعبا بالطريقة المبدعة التي كانا يلعبانها لأنّهما امتلكا ميسي في الفريق، وميسي لعب بطريقته المبدعة لأنّه امتلك تشافي وإنييستا في فريقه.

ينظر غومبريخت الذي يضاهي السبعين من العمر حاليا إلى الزمن الذي أنجب بيكينباور وكرويف ومارادونا كزمن بطوليّ، وهو حرص على مشاهدة كرة القدم أو الاستماع إلى مبارياتها عبر أثير الراديو كما فعل أوّل مرة في عام 1954، وينظر إلى مارادونا كأذكى لاعبٍ في تاريخ كرة القدم، يليه بيكينباور ثم كرويف، فيحلم بولادة مارادونا جديد.

تسأله عن رأيه في كريستيانو رونالدو فيجيبك أنّ رونالدو في كثيرٍ من الأحيان يبدو شاحبا في المنتخب البرتغالي، وهذا يُثبت أنّ الشروط التي وضعها في نظريته تبدو أكثر تعقيدا وفتكا ممّا هي الحال مع ميسي، وكرة القدم الحديثة تحتاج إلى لاعبين يُجيدون الحفاظ على سير اللعب وكأنّه محرّك لا يتوقّف أبدا ليخلقوا تلك اللحظة الدرامية التي لا يمكن توقّعها كما يفعل ميسي.

غومبريخت سبق وقمتُ بترجمة مقالين فلسفيين له أحدهما عن جاك دريدا ويمكن قراءته عبر هذا الرابط أو الرابط، والثاني عن يورغن هابرماس ويمكن قراءته عبر هذا الرابط.

الانجذاب والشغف بأسلوب برشلونة في كرة القدم أصاب الملايين في هذا الكوكب ومنهم كاتب هذا المقال نفسه وكذلك مترجم المقال، ورغم مرور سنوات على بداية هذا الأسلوب فهو ما زال موضوعا لأحاديث محلّلي كرة القدم في كل أنحاء العالم كما هو الآن موضوع المقال المترجم من اللغة الألمانية وسبق ونُشر في صحيفة فرانكفورت ألغماين faz.

 

الترجمة الكاملة للمقال

أسلوب برشلونة

 

قبل عامين تواجه فريقا برشلونة ومانشستر يونايتد في نهائي دوري أبطال أوروبا. هل مازلتم تتذكّرون؟ كان برشلونة قد نجح بصعوبة في تجاوز الدور نصف النهائي، بهدفٍ متأخّر وبقرارين غريبين من حكمٍ نرويجيّ سحبا الفوز المستحقّ من تشيلسي اللندني. في الدقائق الأولى من المباراة النهائيّة كان الطرف الإنكليزي هو المسيطر مرّة أخرى. كريستيانو رونالدو Cristiano Ronaldo كان بإمكانه إحداث تحوّلٍ مختلف على المباراة مع أوّل احتكاكٍ له مع الكرة. لكن بعد ذلك بعشر دقائق كان صموئيل أيتو Samuel Eto’o قد سجّل الهدف الأوّل بعد جريٍ جامحٍ لا يُقاوم، ليلعب بعدها برشلونة مع مرور الدقائق دقيقة تلو دقيقة بشكلٍ أجمل وأكثر اطمئنانا باستمرار.

في النهاية، لعب برشلونة بشكلٍ أفضل من أيّ فريق سبق له أن لعب قبل ذلك في تاريخ كرة القدم-كالمطمئنّ وهو يسير نائما ويعملُ منتشيا، كما لو أنّ أيّ خطأ لن يحدث أبدا، دون إجهادٍ قاهرٍ أو قسريٍّ ملزم. ضربة رأس من ليونيل ميسي  Lionel Messi، لم يسبق لقزمٍ مثله أن تمكّن من الوصول إليها في الواقع، أوضحت أنّ هذا الكمال يُداني شيئا غير مرئيّ_أسلوبا لم يكُ ممكنا تصوّره من قبل.

لكن ما كان ذلك الجديد في طبيعة هذا الانتصار؟ شكّلت السبعينيّات والثمانينيّات حقبة بارزة للفرديّة: يفكّر المرء بالتالي في بيليه Pelé، يوهان كرويف Johan Cruyff، فرانز بيكينباور Franz Beckenbauer، وفي دييغو مارادونا Diego Maradona في المقام الأوّل. على العكس من خلفائهم الحاليّين من اللاعبين، كان لديهم وقت ومساحة كافيين لاستلام الكرة من خطّ الوسط، ليُقرّروا بعد ذلك ويُحدّدوا لمن سوف يُمرّروا ضرباتهم العبقرية “القاتلة”.

ماتيوس يعزل مارادونا

لم يكُ من قبيل الصدفة اختراع دور “الليبرو Libero” كلاعبٍ يستطيع التحرّر من مضايقات لاعبي الخصم بفضل أسلوبه. لكن قبل ذلك، وأثناء بطولة كأس العالم، لم ينجح مارادونا في الحفاظ على هذا الأسلوب، حيث كان لاعب خطّ الوسط المتمرّس لوثر ماتيوس Lothar Matthäus على قدر كبير من اللياقة البدنية والسرعة والقدرة على التحمّل.

بنظرة على الماضي، يبدو أنّ عزل مارادونا عبر ماتيوس قد شكّل نقطة تحوّل حاسمة. آنذاك دوّن أحدهم من الأيام الخوالي ملاحظة تقول إنّ اللعبة قد غدت “ألعاب قوى مع كرة”. نتج عن ذلك أنّ كلّ لاعب بات لديه دوما وقتا أقلّ لإيقاف الكرة وتمريرها، لتصبح رؤية مهاجمٍ غير محمي بسبب الضغط البدني للاعبي الخصوم أمرا أشبه بالمستحيل تماما، ليولد أسلوب “اللمسة الواحدة One touch” الذي يتشابه فيه عمليّا الاستلام والتسليم. ثم أتت بعد ذلك مرحلة زين الدين زيدان  Zinédine Zidane حيث كانت الكرة تُمرّر على الفور إلى أن تُتيح فجوةٌ صغيرة في الدفاع إمكانية تمرير الكرة بشكلٍ حادّ داخل منطقة الجزاء.

اليوم لا يمكن لأيّ لاعب أن يؤدّي وظيفة واحدة فقط في المساحة المخصّصة والمقابلة له في الملعب. ما سبق وقام به إنتر ميلان  Inter Mailand في أوائل السبعينيّات عبر بعض المدافعين الاستثنائيّين والذين كانوا مهاجمين أيضا، وما سعى إليه بعد فترةٍ وجيزة المنتخب الهولندي مع “الكرة الشاملة totalen Fußball” غدا معيارا عامّا. كان ذلك في البداية على حساب الجمالية. قلّة قليلة من اللاعبين، مثل رونالدينهو Ronaldinho في أفضل فتراته، كانوا جيّدين بما يكفي للعب الكرة بأناقة في تلك الظروف. يبدو أنّ التوازن بين القدرة الفنّية والقدرة القتالية كان مفقودا. الصدفة ساهمت بقوّة في جبر التوازن في اللعبة.

حين أصبح النجاح والجمال متطابقين

خلال موسم 2008/2009 أصبح نادي برشلونة  FC Barcelona أوّل فريق في تاريخ كرة القدم، يملك عددا كافيا من اللاعبين، ممّن تواكبُ مهاراتهم الكروية قدراتهم البدنية ما يسمح لهم بلعب أسلوب اللمسة الواحدة دون ترك اللعبة تحت رحمة الصدفة والحظّ. أمسى نهائي دوري أبطال أوروبا في روما حدثا، ذلك أنّه قد شهد فريقا لم يُشكّل له الضغط سببا ليُحجم عن الدقّة والإتقان، فريقا يُمكنه التمرير والتسديد على المرمى في وقتٍ يمارس فيه التمرير فقط في منطقة جزائه أيضا، وهذا ما فاجأ به الخصوم فقط ولم يفاجئ نفسه قطّ، فهو لم يعد بحاجة إلى مزيدٍ من العبقرية. تمّ التغلّب على التعارض بين الجماليّة والنجاح. استغرقت كرة القدم ما يقرب من عشرين عاما لتبلغ ذلك، لكن الآن ها هو الأسلوب الجديد هنا.

لقد أظهرت نقطة التحوّل هذه فجأة، وبكلّ وضوح مرّة أخرى ما يجذب مئات الألاف إلى الملاعب وما يشدّ مئات الملايين للأجهزة (يقصد التلفاز وغيره): فالحماس للرياضات الجماعيّة لا يكمن ببساطة فقط في أن تشاهد فريقك وهو يفوز. ما يُلهم أولا وقبل كلّ شيء هي التجربة الجمالية بالمعنى الفلسفي الكامل للكلمة. ما يريده المشجّعون هي مبارياتٍ جميلة يقدّمها الفريق، جمالا وبهجة لا تُحتمل، يسعى الفريق الآخر للحيلولة دونها ومنعها، جمالٌ سرعان ما يختفي وهو بالكاد قد ظهر.

سيكون ذلك أفضل بكثير إن أدّى إلى تسجيل الأهداف، وسيكون أفضل إن فاز فريقك، ولكن من وجهة نظر المتفرّج يجب عكس الجملة بالنظر للجماليّة كوسيلةٍ لتحقيق غرضٍ ما في كلّ الأحوال. على العكس من ذلك: نحنُ نتفرّج بمتعةٍ كبيرة حين تغدو غاية الفوز وسيلة للعب الجميل.

بدوا كأنّهم لا يُقهرون قطّ

هكذا كانت وضعية نادي برشلونة في موسم 2008/2009. وليس من داعٍ للتأكيد على أنّه لم تكُ نيّة خوان لابورتا Joan Laporta وبيب غوارديولا   Pep Guardiola أو لاعبيهما هي اللعب الجميل، لكنّ البراغماتية كانت في خدمة المشاهد من الناحية الجمالية. أدّى نجاح برشلونة في هذا الحلّ إلى فوز الفريق بالألقاب المحلّية الثلاث وبكل الألقاب الدولية المتاحة والممكنة في موسمٍ واحد. كان الفوز سهلا للغاية، ذلك أنّه لم يكُ هنالك من فريق آخر ويملك علاجا ضدّ ذلك الأسلوب.

كانوا لا يُقهرون. لقد سبق وذكرنا مباراة نصف نهائي أبطال أوروبا ضد تشيلسي Chelsea. بدوا أنّهم لا يُقهرون قطّ، خاصة في الفترة التي تلت نيلهم لقب دوري أبطال أوروبا Champions-League-Titel. من الناحية الجماليّة لم يكُ نادي برشلونة في موسم 2009/2010 أقلّ إثارة للإعجاب من فريق الموسم السابق، لكنّه لم ينجح في الفوز بدوري أبطال أوروبا مرة أخرى. وحتى لو كان البرشا Barça قد لعب في مباراة نصف النهائيّ التي خسرها مع إنتر ميلان بشكلٍ أفضل مما لعبه في مباراته التي كان قد فاز فيها على تشيلسي، فإنّ هنالك شيئا مهمّا يكمن في هزيمته تلك في العام 2010.

لأنّ تلك المباراة قد جرت ضدّ فريقٍ يدرّبهم جوزيه مورينهو José Mourinho الذي ابتدع استراتيجيّة خاصة لمواجهة أسلوب برشلونة الجديد. استندت تلك الاستراتيجيّة على رؤية أنّ مبدأ برشلونة يكمن في تجميد اللعب وتعطيله عبر سلسلةٍ متوالية وطويلةٍ من التمريرات إلى أن تحين فرصة التهديف، عبر الهجمات السريعة مع تمريراتٍ طولية حاسمة تخلخل التحصينات. عدا ذلك، فقد قلّل إنتر ميلان من الفرص القليلة التي يحتاجها برشلونة، عبر الدفاع غير المشروط دون قيود، ذلك أنّهم يُتقنون الدفاع كما لو أنّهم لا يُفكّرون بالهجوم بعد ذلك أبدا.

شيء رائع أصبح عمليا فجأة

من وجهة النظر الجمالية_ومن وجهة نظر برشلونة_ كان أمرا صاعقا مدمّرا حين كُشفت سريعا حدود هذا الأسلوب بتلك الطريقة. ضد إنتر ميلان بدا الأمر فجأة أشبه بكرة اليد مع عدم وجود حدود زمنية لنهاية الهجوم، تمريراتٌ لا نهاية لها من اتّجاه إلى آخر، استحواذٌ لا نهائي على الكرة سعيا لإحداث ثغرة في الجدار الذي لا يقوم بأيّ فعلٍ من جهته للوصول للكرة، وحتّى ميسي المذهل عجز عن اختراق الجدار لأنّ عددا كبيرا من المدافعين يكمنون له بالمرصاد على الدوام.

لا يُخفى على أحد أنّ المنتخب الإسباني الذي أصبح بطلا للعالم عام 2010 كان نسخّة دفاعيّة محسّنة من نادي برشلونة. مما لا يُثير إلا القليل من الدهشة أنّ هذا المنتخب قد واجه صعوباتٍ جعلته يخسر مع منتخب سويسرا الذي كان يدرّبه واحد من الأنجح في العالم في استراتيجيّات الدفاع وهو أوتمار هيتسفيلد Ottmar Hitzfeld. فازت إسبانيا في جميع مبارياتها الأخرى بذات النتيجة تقريبا 1:0 بأسلوب كرة اليد الذي يستخدمُ الهجوم كحصار.

لكن وبعد مضيّ أقلّ من دقيقة واحدة حتى أصبحت هذه المباراة أيضا جميلة بجمال مباراة برشلونة في نصف نهائي أبطال أوروبا في العام 2009. على العكس من ذلك فإنّ لعب ليونيل ميسي لصالح الأرجنتين أدّى لتضاؤل إمكانية العثور على ثغرة في دفاعات الخصوم واستخدامها. أصبح الأسلوبُ الرائع فجأة وصفة عمليّة واقعيّة للنجاح.

تزايدت هالة مباراة برشلونة في 2008/2009 بسرعة في وقتٍ ساهم فيه الفوز بلقب كأس العالم WM-Titel في تعزيز مكانة برشلونة. تفسير النجاح المزدوج يتضمّن ذلك الإلهام والحماس وتلك النشوة الكبيرة باللعب التي تتجاوز العقل. من جهةٍ أخرى فإنّ وقار فريق برشلونة واتّزانه كواحدٍ من أهمّ عوامل النجاح حتى اليوم أمر لا شكّ فيه. بيكيه Piqué، بويول Puyol، تشافي Xavi، بوسكيتس Busquets، إنييستا Iniesta، بيدرو   Pedro وميسي Messi هم كلّهم نجوم لكن لا أحد منهم يدّعي أنه يلعب دورا قياديّا. إنّهم الأكثر قابلية لتبادل الأدوار فيما بينهم أكثر من قادة أيّ فريقٍ آخر في العالم. حقيقة أنّ مدرّبهم كان لاعب وسط لبرشلونة وليس أكبر عمرا من نجومه السابقين من اللاعبين وهذا ما ساعد على تعميق التجانس (في الفريق).

برشلونة يُعتبر منتخبا وطنيا لكتالونيا

إذا كان للتجانس جانبا سلبيا في أيّ فريق، فإنّ مشكلة برشلونة تكمنُ في إدماج لاعبين مهمّين جدد فيه. عشنا هذه المشكلة مع تييري هنري Thierry Henry، زلاتان ابراهيموفيتش Zlatan Ibrahimovic، وتقاعس غوارديولا الطويل عن شراء اللاعب الألماني مسعود أوزيل Mesut Özil يدخل في هذا الإطار. في النهاية فإنّ الأمر يتعلّق بشكلٍ ما من أشكال منتخب كتالونيا الوطني katalanische Nationalmannschaft، إنّه أكثر من نادٍ més que un club، وهذا يتعدّاه لينتقلُ إلى اللاعبين من غير الكتالونيين في الفريق. اعتادت وسائل الإعلام والمشجّعون على الاحتفاء بنادي برشلونة كأفضل فريق في زمننا، فأسلوبه في اللعب يُعدُّ معيارا للفرق الأخرى بما فيها المنتخبات الوطنية.

حتى الآن لا يؤكّد الموسم الذي شارف على نهايته إلا على هذه الحالة، وفاز برشلونة بالبطولة الإسبانية بتفوّقٍ يفوق السنوات الماضية، بينما سجّل ميسي أهدافا تزيد على أيّ وقتٍ مضى، أما فوز ريال مدريد Real Madrid ببطولة كأس ملك إسبانيا “Copa del Rey” فهو وصمة عارٍ في عيون الجماهير الكتالونية على الأقلّ، ذلك أنّ فريق جوزيه مورينهو لم ينجح في النسخة التالية من نهائي دوري أبطال أوروبا باستخدام ذات الاستراتيجيّة المدمّرة التي قادت إنتر ميلان إلى النجاح في العام 2010.

بالنسبة للنسخة الجديدة من نهائي عام 2009، فإنّ السؤال الذي يطرح نفسه هو ما إذا كانت الفجوة بين برشلونة ومانشستر يونايتد Manchester United قد تقلّصت الآن، وما هي الظروف التي يمكن لها أن تمنح الفرصة لمانشستر. إنّ السير أليكس فيرغسون Sir Alex Ferguson المدرّب الأكثر خبرة وطموحا والأكثر مرونة عصريّة سيراهن على عدم السماح لبرشلونة في الدخول إلى المباراة وإخراجه منها.

هجوم مانشستر مع واين روني وحوله

من رأى مانشستر يونايتد وهو يُعزّز من زعامته في الدوري الإنكليزي الممتاز وصولا لفوزه بالبطولة، كيف فرض نفسه من نجاحٍ إلى نجاح وبسهولةٍ في دوري أبطال أوروبا der Champions League، يعرف أنّ تحدّي خلق توليفةٍ بين السرعة والأسلوب قد تحسّن بشكلٍ كبير. عدا عن ذلك فإن فيرغسون يتوفّر لديه لاعبون أكثر مما لدى غوارديولا وخصوصا اللاعبون الشباب في الهجوم الذين يستطيعون العمل مع ولأجل واين روني Wayne Rooney لخلق مزيدٍ من فرص التسجيل: شيشاريتو هيرناندز   Chicharito Hernández، ناني Nani، فالنسيا Valencia، أندرسون Anderson (لا أحد منهم من الدوريات البريطانية)، على سبيل المثال لا الحصر.

هذا يعني أيضا أنّ مانشستر يونايتد ومع انخراطه في اللعب لديه إمكانية خلق مفاجآتٍ أكثر مقارنة ببرشلونة. هنالك تشابهٌ بين المنافس على نهائي دوري أبطال أوروبا والمنتخب الألماني الذي أثار الإعجاب في جنوبيّ أفريقيا قبل حوالي عام (يقصد الكاتب بطولة كأس العالم عام 2010 بدولة جنوبي أفريقيا)، لكن هذا المنتخب الألمانيّ الشاب فشل في بطولة كأس العالم الأخيرة بسبب إسبانيا، وقبل كلّ شيء بسبب الخبرة والتفوّق البدني للاعبي برشلونة على وجه الخصوص.

المصدر

ملاحظة: لمعرفة تفاصيل عن أيّ من الأسماء الواردة في المقال أنقر فقط على الأسم الذي تريده ومعظم الروابط باللغة الألمانية.

 

عبيد الطبيعة. حول أصل عنصرية لون البشرة

 

 

ترجمة وتقديم: 

عبد الحميد محمّد

تمهيد

وصف كلود ليفي شتراوس ما سمّاها “شعوب بلا تاريخ” بأنّها الأكثر سعادة. إرث التاريخ غالبا ما يكون ذا تقلٍ غير محمود بوطأته، خاصة على تلك الشعوب التي لها فائض كبير من الزمن الضائع والقليل من الحيويّة والمرونة. وفي دراسة مثل دراسة عنصرية لون البشرة، من المهم التعرّف على التاريخ بكلّ تفاصيله وتفاصيل العلاقات بين الأفراد والمجموعات التي صنعته، على ألّا تكون محاكمته من بواعث التمحيص في ثناياه، فتحمّل المسؤوليات أهم من هذه المحاكمة وأكثر نجاعة وجدوى.

 

بالطّبع أيّها السيّد، ليس ثمّة أيُّ تحيّزٍ بيننا بحسب اللون.

الزنجيُّ إنسانٌ مثلنا، تماما.. إنّ سواده لا يجعله أقلّ ذكاء منّا

فرانز فانون (بشرة سوداء، أقنعة بيضاء)

 

بواعث العنصرية وفيزياء السواد

كراهية أصحاب البشرة السوداء تبدو نوعا من الاحتقار الغريزي الذي يستفحل حتى يغدو حقيقة في النفوس لا تستوعبها كتب التاريخ، ولذلك قد يكون إمعان النظر في الحاضر أكثر إلحاحا من النظر في التاريخ الذي رأى فيه ريمون أرون Raymond Aron حوارا بين الماضي والحاضر، وزمام المبادرة يملكها هذا الحاضر.

والنظرة للآخر تستوجب التمحيص في ذواتنا قبل النطق بحكمٍ قيميّ على هذا الآخر وتحقيره، فنحن “ملأى بالريح، والريح أحكم منّا” كما قال ميشيل دي مونتين Michel de Montaigne قبل مئات السنين.

زوي سامودزي Zoé Samudzi، الأمريكيّة المختصّة بعلم الاجتماع الطبي والإثنوغرافيا البصرية والعنـصرية عبرت بألم مؤكّدة أنّه لا يمكن لأحد أن يفهم كونك أسود في وقتٍ يتمّ فيه تعريفك كشيءٍ ما بطريقة مجرّدة، وكأنّها تقول إنّ هنالك استلابا لروح يتمّ إقصاؤها بشكلٍ قاسٍ ووحشيّ، من مشاهد حياتنا القاسية بطبيعتها الباعثة على المكابدة والشقاء.

البروفسور في جامعة إيموري Emory بمدينة أتلانتا الأمريكية والمختص بالأدب الإنكليزي والخطاب الأدبي والفلسفي والثقافي حول الهوية السوداء والسواد ميشيل إم رايت Michelle M. Wright، سأل في كتابه “فيزياء السواد Physics of Blackness”:

ماذا يعني أن تكون أسود؟ فوجد أن السواد ليس بيولوجيّ المنشأ بل نشأ في الخطاب الثقافي والأدبي والاجتماعي، ليطرح سؤالا آخر: هل يتغيّر معنى السواد مع تغيّر معطيات الوقت والمكان؟ فافتراضات المكان والزمان تمنع الوصول إلى تعريفٍ شاملٍ للسواد الذي يستمرّ على الدوام ربّما لأسباب تصفها الأمريكية المختصّة بالدراسات الجنسانية والنصوص الإبداعية السوداء كاثرين ماكيتريك Katherine McKittrick بالأسباب الشيطانيّة خاصة فيما يتعلّق بالنساء السود.

اجترح ميشيل إم رايت مفهوم “الزمن الظاهري epiphänomenale Zeit” الذي يحيل للظاهرة الإضافية أو الثانوية التي تكمن خلفها ظاهرة أوّلية متوازية معها، أي هنالك سببا ضمنيّا معروفا لكن يتم التكتّم والتحفّظ عليه مع أن هذه الظاهرة الإضافية نجمت عن الظاهرة الأولية وعن عمليات التفكير العقلية لدى الناس وما في مخيّلتهم، فالعلاقات الدلالية تسبق الصور المرئية وبالتالي يتم تخيّل شكل الكائن في الأذهان أولا وهو ما يتم عبره تخيّل وتفسير العلاقات بين البشر وكذلك يتم تفسير الماضي والحاضر وحتى المستقبل، ليتم تغييب مساحات العيش المشترك بين الناس بمختلف ألوانهم وأعراقهم، وربما لو عدنا للوحات الفنانة الأمريكية كارا ووكر Kara Walker البانورامية التي تبحث في الجوانب المظلمة للتاريخ وأعماق الثقافة لاستطعنا فهم وإدراك ذلك بشكلٍ أكثر وضوحا.

النهج الأكثر شيوعا واستخداما في الوقت الحاضر لدراسة العنصرية هو النهج الاجتماعي النفسي der sozialpsychologische Ansatz، فالعنصرية تشكّل تقييما لسلوك اجتماعي ضمن معايير أخلاقية ونفسية طبيعية، غير أنّها دلالة عجزٍ تاريخي في التمثّل لـ متطلّبات الديمقراطية والتخلّص من الاستبداد باستكمال البناء المؤسّساتي المناسب، فهي فعل سياسيّ ناقص وغير مكتمل نتيجة انعدام التسامح وغياب الوعي الديمقراطي.

ونظرية ثيودور أدورنو Theodor W. Adorno عن “الشخصيّة الاستبداديّة” أكّدت أن الأشخاص ذوي الشخصيات الاستبدادية يبدون ميلا أكبر إلى ذلك التصنيف القائم على ثنائية متضادّة (نحن الأعلى وهم الأدنى)، في وقت يميل فيه هؤلاء الأشخاص للولاء الأعمى للمعتقدات القديمة القائمة على التصنيفات والتفضيلات الأيديولوجية من هذا القبيل، ليذهب أدورنو للقول بإنّ الفاشية كان لها أساس جماهيري متين، حيث تنحاز الجماهير لقبول التطلّعات المناهضة للديمقراطية بسهولة.

العنصرية “نمط ثقافي” يمكن إعادة بنائه بشكلٍ أفضل، لكن يجب التمييز بين التاريخ العقائدي الأيديولوجي والتاريخ النقدي. حين بدت النازيّة وكأنّها سيطرت على قلوب الألمان مع صعود نجم هتلر، ذهب ريمون أرون لقوله الشهير: ” في مواجهة هتلر، الفلسفة لا تشكل وزناً“، فهتلر والتاريخ المخجل الذي كتبه بعنجهيّته استطاع بالفعل أن يقصي كل مطامح الفلاسفة.

بعد مقتل جورج فلويد George Floyd قال الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش António Guterres: ” يحتاج كل منا أن يسأل: هل أنا ومجتمعي عنصريون؟ وماذا عليّ أن أفعل لتصحيح ذلك؟”. لكن غوتيريش لم ينس التأكيد على أنّ العنصرية ” ظاهرة ثقافية معقدة”.

نوربرت إلياس Norbert Elias كان قد لاحظ بوضوح الهابيتوس Habitus الذي يسيطر على المجتمع بمعرفة مستضمرة تصل لحدٍّ تصبح فيه أقرب لهويّة جماعية تتوارثها الأجيال، ونزعة التعالي والشعور بالتفوّق على الآخرين تنشأ من هنا تحديدا من خلال قيم ومعايير طاغية في أيّ مجتمع، أي من خطاب الهويّة الدينيّة أو القومية أو من خطاب الكيان والذات الثقافية التي يهدّدها الآخرون “الغرباء”، ولذلك لجأ قاموس لاروس للقرن العشرين الصادر في عام 1932 في تعريفه للعنصرية إلى اعتبارها مرادفة للحزب النازي المدّعي لعرقٍ ألماني صاف، لكن بكلّ تأكيد ليس من أساس علميّ لكلّ النظريات العرقية التي تضع تصنيفا وتسلسلا هرميا تفضيليّا للأعراق والإثنيات والأقوام.

الذاكرة الشرّيرة للثقافة

ذكر المنظّر البريطاني تيري إيغلتون Terry Eagleton في لقاء له أنّ الثقافة إذا سيطرت عليها أيادٍ مسيئة، فإنها ستقضي على مظاهر التنوّع والاختلاف، لتتحوّل الثقافة بذلك إلى ظاهرة شرّيرة وخطيرة.

أمّا البروفسور وأستاذ الأدب الألماني واللسانيات في جامعة بيليفيلد كلاوس ميخائيل بوغدال Klaus-Michael Bogdal، فقد ذكر في كتابه عن الغجر وما يطالهم من تحقيرٍ وازدراء في أوروبا منذ مئات السنين “أوروبا تخترع الغجر” وصفا شبيها “الذاكرة الشرّيرة للثقافة” كتوصيفٍ لما سمّاه زيجمونت باومان Zygmunt Bauman “استمرارية الإمكانات البديلة والمدمّرة لعمليّة التمدّن”، وقصد بوغدال بهذا التوصيف ذلك التداخل بين ثلاثة مستويات هي:

علم الأنساب المتعلّق بالغجر والمستند على الشائعات والأكاذيب المستفحلة حتى في الوسط الأكاديمي، ثمّ علم الآثار (العاديّات) التقليدي الذي يتناول الأشكال والأنماط المنتجة للمعرفة والخطاب الأدبي عن الغجر، وأخيرا تاريخ ثقافي لعب فيه المستويان الأوّلان دورا مؤثّرا في بناء الذاكرة التاريخية بأوروبا وتأثيرات هذه الذاكرة وتطوّرها.

عن كاتب المقال

أيغون فلايغ Egon Flaig أستاذ فخري متقاعد للتاريخ القديم في جامعة روستوك Universität Rostock الألمانية، وسبق له أن درّس في العديد من الجامعات الألمانية.

فلايغ تخصّص في التاريخ القديم لألمانيا والتاريخ القديم في عمومه ولا سيما التاريخ الروماني والإغريقي القديم، لكن اهتمامه تركّز على موضوعات العبوديّة والديمقراطية والدين والهويّة الوطنيّة، وهو استكمل تحصيله العلمي في جامعات شتوتغارت وباريس وبرلين.

عمل فلايغ كمترجم وقام أيضا بدراسة الفلسفة إلى جانب تخصّصه في التاريخ فنال الدكتوراه في كليهما، وكان أستاذا زائرا لدى بيير بورديو Pierre Bourdieu في الكوليج دو فرانس Collège de France في عام 1995.

فلايغ مؤرّخ معروف من أولئك المؤرّخين الذين يوظّفون استنتاجات ومعارف مدرسة الحوليات الفرنسيّة المعروفة Annales-Schule وكذلك النظريات الاجتماعية في دراساتهم، لكنّه يؤكّد أنّه “آتٍ من الزاوية اليسرى” وليس من أيّة مدرسة تاريخيّة قديمة.

نظريا توجّهه نظريات ماكس فيبر Max Weber وبيير بورديو، وهو متأثّر بالأنثروبولوجيا الثقافية، فيجد نفسه بعيدا جدا عن التاريخ الألماني التقليدي القديم.

أطروحات فلايغ غالبا ما تثير الكثير من النقاشات والجدل، وبعض هذه الطروحات لاقت رفضا عنيفا لكن بعضها الآخر لاقت قبولا واسعا.

بحوثات فلايغ تتركّز على البحث المقارن لكن باختصاصات متعدّدة، وهو يرفض أن يتمّ تصنيفه كمتخصّص بالتاريخ القديم ويودّ أن يفهم انطلاقا من كونه متعدّد الاختصاصات وجزءا من الأنثروبولوجيا السياسية politischen Anthropologie.

يعتقد فلايغ أنّ إعادة إنتاج الممارسات المجتمعية تلعب دورا هاما، والثقافة لا تشكّل وجها خاصا أو بديلا منفصلا عن المجتمع بل بعدا يكمن بالضرورة في كلّ مفاصل هذا المجتمع ويتسلّلّ ليخترق كلّ توجّهاته.

نأى فلايغ بنفسه في منهجه الذي يتّبعه عن الإصدارات الحديثة في علم الاجتماع لاستبعادها للذاكرة الثقافية والبشر والناس من مرجعيّاتها وذخيرتها النظرية، ولا سيما نظرية الأنظمة لنيكلاس لومان Niklas Luhmann الذي عبّر بوضوح عن عدم اهتمامه بالناس لأنّهم ليسوا من المجتمع أو من الأنظمة المعقّدة التي تسيّره، ليعتبر فلاي أنّ نظرية الأنظمة عاجزة عن شرح عملية تحرير العبيد Abolitionismus لأنّها عاجزة عن تفسير الظواهر الاجتماعية.

المقال عنوانه الكامل هو (عبيد الطبيعة: حول أصل عنصرية لون البشرة)

عبيد الطبيعة: حول أصل عنصرية لون البشرة

في العالم الأكاديمي، وبوجه خاص في الولايات المتّحدة الأمريكية، فإن كلمة “عنصرية Rassismus” على كلّ لسان. نظرا لاستخدامها اللا محدود والتجريبي في غالب الأحيان، من المهم معرفة الحقيقة التاريخية: العنصرية المتعلّقة بلون البشرة أتت من الثقافة العربية.

أيغون فلايغ Egon Flaig

عنوان الصورة المرفقة الأولى: رسم توضيحي عن سوق العبيد بمدينة زبيد Zabid ([1]) في اليمن من القرن الثالث عشر الميلادي ليحيى بن محمّد الواسطي Yahya ibn Mahmud al-Wasiti في مقامات الحريري Maqamat von al-Hariri ([2]).

لا علاقة للعنصرية بلون البشرة. كثيرون من كتّاب ما بعد الحداثة postmoderne لا يميّزون لدى البحث في موضوع العنصرية فيستخدمون مصطلحات غير دقيقة بدلالاتها. وصف كلود ليفي شتراوس Claude Lévi-Strauss في العام 1988 العنصرية كـ “عقيدة دقيقة يمكن إيجازها في أربع نقاط. أوّلا: يوجد ترابطٌ بين الإرث الجيني من جهة والقدرات الفكرية والنظم الأخلاقية من جهة أخرى. ثانيا: هذا الإرث الذي تعتمد عليه تلك القدرات الفكرية والنظم الأخلاقية يتشارك فيه جميع الأعضاء في مجموعات بشريّة معيّنة. ثالثا: هذه التجمّعات سمّيت “الأجناس” ويمكن تصنيفها وفق الإرث الجيني. رابعا: تخوّل هذه الفروقات ما يسمّى بالأعراق المتفوّقة السيطرة على الآخرين واستغلالهم وربّما إبادتهم“.

هذا هو التعريف الوحيد الأكثر تماسكا حتى الآن. وبالتالي فإنّ العنصرية تنبثق من الميل لدى جميع الثقافات إلى الحطّ من قيمة الآخرين. إذا ما زادت حدّة التصوّر بأنّ الآخرين يعانون من قصورٍ وعجز، فسيتمّ البحث عن دونيّتهم في جوهرهم وفي النهاية في سليقتهم. هنا في هذا الصدد تلعب العبودية Sklaverei دورا حاسما لأنّها تولّد تبايناتٍ اجتماعيّة معتادة وكبيرة من هذا القبيل وليس من السهل تعويضها بأيّ شكل. ثم تنشأ تلقائيّا فكرة أنّ المستعبدين كائناتٌ دون المستوى وكأنّهم ينتمون لجنسٍ آخر. كلود ميلاسو Claude Meillassoux ([3]) وأورلاندو باترسون Orlando Patterson ([4]) أبرزا وأكّدا على أنّ هذه العنصرية كانت متفشّية في كلّ مكان، حيثما فرّقت العبوديّة باستمرار بين الناس، في إفريقيا كما في آسيا أو أوروبا.

العنصرية بدون لون البشرة

كذلك في اليونان القديمة نجد مذهب أرسطو Aristoteles، حيث اللا مساواة العميقة في الطبيعة بين بعض الإثنيّات البشرية المعيّنة من النواحي الأساسية -فكريّا وأخلاقيّا. إلى حدّ كبير بقي هذا المذهب “عبيد الطبيعة Sklaven von Natur” في اليونان القديمة مهمّشا، حيث نصّ القانون الروماني بشكلٍ صريح على مبدأ أنّ جميع الناس متساوون بشكل طبيعي.

عنصرية عبيد الطبيعة وجدت في غير هذا المكان أيضا، لكن لم تك لها علاقة بلون البشرة. في العام 1300م وحين حاول الإمبراطور الصيني كنولي شيسو Knoli Chisu ([5]) إصلاح نظام العبودية، اعترض الملك الكوري شونغنيول Chungnyol ([6]): “علّمنا أسلافنا أن هؤلاء العبيد كائناتٌ تنتمي إلى عرقٍ آخر، وبالتالي من المحال أن يصبحوا أناسا طبيعيين. إن انتهاك تعاليم أسلافنا من شأنه أن يعرّض نظامنا الاجتماعي للخطر“. كان الملك يتحدّث عن أولئك الذين يبلغ تعدادهم حوالي ثلاثين بالمائة من الكوريين المستعبدين في بلاده، الذين يبدون مثله تماما.

كيف ظهر لون البشرة ليلعب هذا الدور؟ اعتقد الجغرافيون الهلينستيّون أنّ الاختلافات الطبيعيّة بين الإثنيّات (الأعراق) كانت تعود لاختلاف المناطق المناخيّة على الكرة الأرضية. وفقا لنظرية المناخ هذه، فإنّ لون البشرة “الحمراء” هو المعيار القياسي الطبيعي ويعود الفضل في ذلك للمناخ المعتدل، بخلاف ذلك فإنّ الكلتيّين والألمان في المنطقة الشمالية الباردة غدوا ذوي بشرة بيضاء، أمّا المناخ الدافئ فقد جعل من المصريّين والموريتانيّين ذوي بشرة حنطيّة، في حين أنّ النوبيّين والأثيوبيّين ذوو بشرة سمراء.

ومع ذلك فإنّ هذا المقياس اللوني لا يشير إلى عدم مساواةٍ في الطبيعة. فكرة أنّ ذوي البشرة الداكنة هم أقلّ شأنا كانت فكرة دخيلة في جميع العصور الكلاسيكيّة القديمة. الفن التشكيلي صوّر ذوي البشرة الداكنة حتى وقتٍ متأخّر كبشر أندادٍ مكافئين لغيرهم. بخلاف ذلك وجد في الشرق الأوسط وفي زمنٍ مبكّر تفضيلٌ جماليٌّ وجنسيٌّ لألوان البشرة الفاتحة، لكن مع ذلك فإنّ هذه التفضيلات ليست عنصريّة لأنّها لا تؤكّد تلقائيّا على دونيّة فكريّة وأخلاقيّة طبيعيّة.

كان برنارد لويس Bernard Lewis قد برهن في العام 1971 على أنّ عنصرية لون البشرة كانت ابتكارا عربيّا. في أعقاب الفتوحات العربية تبنّى المفكّرون الإسلاميّون نظريات المناخ الهلينستيّة، فاستخدموا ألوان الأسود، الأحمر/الحنطي الفاتح والأبيض ليضعوا الإثنيّات كلّها في تسلسل هرمي عنصري، وبذلك أنشؤوا نظريّة عنصريّة “علميّة” جديدة.

كتب شخصٌ مجهول الهويّة من العراق، في العام 900م تقريبا، أنّ الجنين في المناطق المناخيّة الباردة يعاني من عاهاتٍ وأضرارٍ جسيمة وهو في رحم الأمّ، وهذا ما يجعلهم بشرا غير كاملين، وعلى العكس من ذلك فإنّ الأطفال في المناطق المناخيّة الحارّة ينضجون في رحم الأمّ لفترة طويلة: “وهكذا يتأرجح الطفل بين اللونين الأسود والداكن الغامق، بين الرائحتين الكريهة والنتنة، أشمط الشعر ([7])، بدون أيّ تناسقٍ بين الأطراف، وعقلٍ سقيم ناقص، ومشاعر وعواطف بليدة، مثل الزنج Zanj والأثيوبيّين وبقيّة السود ومن يماثلونهم”. مقالةٌ جغرافيّة فارسية (حوالي العام 982 ميلاديّة) تدّعي: “فيما يتعلّق ببلدان الجنوب، فإنّ جميع سكّانها من السود (….) إنّهم أناسٌ لا يستوفون المعايير البشرية” وكذلك فإنّ الجغرافي المقدسي Makdisi (من القرن العاشر الميلادي) دوّن ملاحظة حول الأثيوبيّين: “أمّا الزنج فقوم سود الألوان فطس الأنوف… قليلو الفهم والفطنة([8]).

عنصرية لون البشرة ثلاثيّة الأبعاد

أشار برنارد لويس إلى أنّنا في معظم الأحيان لا نتعامل هنا مع عنصريّة ثنائيّة الأبعاد (أسود/أبيض)، بل عنصريّة ثلاثيّة الأبعاد: عرقان دون المستوى (أسود/أبيض) مقيمان في المنطقة المناخيّة القاسية، وفي المقابل يقيم في المنطقة المعتدلة عرقٌ ذو جودة عالية (أحمر أو حنطي فاتح). وفقا لذلك يعدّ الترك والسلافيّون والصينيّون “كبيض” أعراقا دون المستوى. الفلسفة الإسلامية تبنّت هذه العنصريّة وفقا للون البشرة.

أكّد ابن سينا العظيم Der grosse Avicenna على أنّ المناخ القاسي أنتج “عبيدا للطبيعة”: الأتراك والسود كانوا منهم. في كتاب “القانون في الطبّ Liber Canonis”([9])-أحد أهمّ النصوص لدراسة الطبّ في الجامعات الغربيّة-يكرّر ابن سينا أنّ الأفارقة السود أقلّ شأنا فكريّا. حتّى في إسبانيا الإسلاميّة تفشّت نظرية العرق المناخيّة، حيث كان صاعد الأندلسي Said al-Andalusi (توفّي في العام 1070 ميلاديّة) يعلّم قائلا: “لطول مقارنة الشمس لسمت رؤوسهم (…) صارت أمزجتهم حارّة، أخلاطهم محرقة، فاسودّت ألوانهم وتفلفلت شعورهم، فعدموا بهذا رجاحة الأحلام وثبوت البصائر، وغلب عليهم الطيش وفشا فيهم النوك والجهل مثل من كان من السودان ساكنا بأقصى بلاد الحبشة والنوبة والزنج وغيرها([10]).

الأرثوذكسيّة الإسلامية Die islamische Orthodoxie لا تختلف عن نظيراتها اليهوديّة والمسيحيّة، فهي كانت ضد العنصريّة واعتبرت المساواة في الطبيعة الإنسانية مسلّمة بديهيّة-كما هي الحال في القانون الروماني. العبوديّة عقوبةٌ للكفّار (غير المؤمنين)، هكذا تدّعي المرجعية الرسمية لرجال الدين المسلمين أنّها ليست انعكاسا لدونيّة عرقية، لكنّ الفلاسفة والعلماء يعارضون بما يناقض ذلك. هكذا نقرأ لدى ابن خلدون Ibn Khaldun (توفّي في عام 1406): “لذلك فإنّ الشعوب السوداء معتادون في قابليّتهم على الإذعان للعبوديّة، لأنّهم يملكون القليل من خصال البشر والكثير من تلك الشبيهة تماما بالأصول الحيوانية([11]).

كذلك تبنّى العلماء اليهود في العالم الإسلامي هذه العنصرية. هكذا كانت الحال مع يهوذا هاليفي Jehuda Halevi ([12]) (توفّي عام 1141) وقبلهم جميعا موسى بن ميمون Maimonides ([13]) (توفّي عام 1204) الذي وفي كتابه “دلالة الحائرين Führer der Verwirrten” أطلق حكما على الترك في الشمال والسودان في الجنوب:

وما هؤلاء عندي في مرتبة الإنسان، وهم من مراتب الموجودات دون مرتبة الإنسان، وأعلى من مرتبة القرد([14]).

صمّمت أدلّةٌ خاصّة بشراء العبيد Handbücher für den Sklavenkauf لأول مرة في العالم الإسلامي، فيها تمّ تحديد الخصائص العرقية لهم، لتمنح تلك الكتب للنظرية العنصرية Rassenlehre الفلسفية والطبّية مدخلا إلى الحياة اليومية ومصداقيّة (استساغة) يومية. لا ينبغي لأصل كلمة العرق «Rasse» ([15]) في اللغة العربية أن يفاجئنا: razza وraza وrace ([16]) هي مشتقّة من ras التي تعني “الرأس”([17]). لاحقا وبعد خمسة قرون وصلت هذه النظرية (العلموية szientistische) ([18]) المبنيّة على النظرية المناخية في عنصرية لون البشرة إلى الأوروبيين، وهي تعود أساسا إلى تأثير كتابات ابن سينا الطبّية.

لعنة حام

أحد تفسيرين تمّ الأخذ بهما هي لعنة حام ([19]). التقليد الحاخاميّ برّر العبوديّة بتلك اللعنة التي أنزلها نوح على حفيده كنعان Kanaan، لمعاقبة ابنه حام (سفر التكوين Genesis 9,25). اللعنة أظهرت الكنعانيين أناسا من نوعٍ آخر مختلف ومحكومين بلعنة العبوديّة، لكنها ليست عجزا أو فروقا طبيعيّة نشأت عبر التناسل الطبيعي بل لعنة موروثة. الدونيّة الأخلاقيّة والفكرية للكنعانيّين إذا ليست مبرّرا ملزما على الإطلاق لاعتبارهم “عبيدا بالولادة”.

هذا من شأنه أن يحيل المبدأ الأساسي للعنصرية إلى تفاوتٍ منطقيّ، ومع ذلك فإنّ الإنجيل لا يذكر لعنة حام. وعلاوة على ذلك فإنّ كنعان ليس سلفا مؤسّسا لذرّية السود بل شقيقه كوش Kusch، ولكنّ كوش لم تمسسه اللعنة ولذا فإنّ ما ورد في النصّ من مضمون يجعل من المحال ربط لعنة نوح بالسود. لكن التفسير يسلك دربا مغايرا كلّيا. لقد تتبّع ديفيد غولدنبرغ David Goldenberg ([20]) عام 2005 كيف عزّزت لعنة نوح في الشرق الأوسط وخاصّة في العالم الإسلامي عنصرية لون البشرة.

في رواية تعود للقرن الثالث الميلادي ذكر أحد الحاخامات في تعليقه إنّ الله قد عاقب نجل نوح (حام) ببشرة سوداء، وتبنّى الكتّاب المسلمون هذه الرواية. هكذا يسرد ابن قتيبة (توفّي في عام 889): “حام بن نوح كان رجلا أبيض حسن الوجه والصورة فغير الله عز وجل لونه وألوان ذريته من أجل دعوة أبيه (…) ولد حام كوش بن حام وكنعان بن حام وقوط بن حام فأما قوط بن حام فسار فنزل أرض الهند والسند فأهلها من ولده وأما كوش وكنعان فأجناس السودان والنوبة والزنج والقزان والزغاوة والحبشة والقبط والبربر من أولادهما” ([21]).

عقوبة تغيير اللون لحام وذرّيته غدت مهيمنة على الروايات الإسلامية، على الرغم من رفض العلماء العارفين بالقرآن لها، كما هي الحال مع الفتوى الشهيرة للباحث الأفريقي الأسود أحمد بابا Ahmad Baba ([22]) حول العبودية (1614). غير أنّ هذه الفتوى كانت عبثا غير مجدٍ، ذلك أنّ الرواية العنصرية عن لعنة حام قد سادت بتأثيرات خطابها المنطقي، ومنذ زمن طويل، في أكبر مجتمعٍ لمالكي العبيد Sklavenhaltergesellschaft ([23]) في التاريخ.

معرفة الحقائق التاريخيّة حول عنصرية لون البشرة

في المسيحيّة الغربيّة استغلّت لعنة حام لتبرير القنانة die Leibeigenschaft، ولهذا السبب بالذات كانت مثار جدل حادّ. لم تك للعنة أيّة علاقة بالسود. الصورة التي نطق فيها نوح باللعنة توجد في تمثيلات تصويريّة عديدة، ولا توجد أيّ منها- من أواخر العصور القديمة إلى منتصف القرن التاسع عشر-تظهر حام ببشرة داكنة. النسخة المتعلّقة بلون البشرة من لعنة حام وصلت إلى أوروبا في منتصف القرن الخامس عشر الميلادي، مع انخراط البرتغاليّين في تجارة الرقيق الإسلامية على الساحل الغربي لأفريقيا. في “يوميّات غينيا Crónica da Guiné”([24]) ذكر غوميز دي زورارا Gomes de Zurara ([25])عام 1444 إنّ صيّادي العبيد المسلمين في سنغامبيا Senegambia ([26]) برّروا أعمالهم بلعنة حام على السود.

لم تلعب النسخة “السوداء” من اللعنة أيّ دور في المناقشات الاسبانية الكبرى في القرن السادس عشر حول شرعيّة الاستعباد من عدمها، إذ لا يوجد أيّ فرمان للكنيسة الكاثوليكية يأتي على ذكرها فيما يتعلّق بالعبودية. أمّا في البروتستانتية فالأمر مختلف، إذ ومع تحوّل عبوديّة البحر الكاريبي في منتصف القرن السابع عشر لعبوديّة سوداء، تبنّت المبرّرات البروتستانتية للعبودية النسخة الإسلامية عن اللعنة. لذا فإنّ هذه الاستجابة (يقصد التبنّي) تتّسم بالمفارقة، لأنّ صلابة الإيمان بنصوص الكتاب المقدّس لدى البروتستانت كانت تستوجب التزامهم بما ورد من مضمونٍ في (سفر التكوين Genesis 9,25).

في ضوء تراجع التمييز بين المفاهيم المجرّدة في العالم الأكاديمي والاستخدام اللا متناهي لمفردة “العنصرية Rassismus”، بات عدم تجاهل الحقائق التاريخيّة أكثر إلحاحا. طالما أنّ العلماء يسترشدون بالفكرة الرائدة للحقيقة Leitidee ([27])، فإنّه من المخالف للتقاليد الفكرية في التعليم الجامعي كبت الحقائق واستبعاد ما يتعلّق بها من الكتب من المكتبات. نحن جميعا، وبالأخصّ المختصّون بالدراسات الثقافية، نستحضر عنصرية لون البشرة ومن أين نشأت، لأنّ المعرفة تعيننا على مواجهتها.

المصدر

الهوامش والإحالات

عنصرية لون البشرة

([1]). مدينة زبيد هي ذاتها مدينة الحديدة في اليمن، وهي مدينة لها أهمية تاريخية وأثرية استثنائية بسبب هندستها العسكرية والمدنية، وكانت عاصمة اليمن بين القرنين الثالث عشر والخامس عشر الميلاديين. فيها جامعة إسلامية وأدرجتها منظمة اليونسكو ضمن التراث الثقافي العالمي. أما لوحة سوق النخاسة (العبيد) التي رسمها يحيى بن محمود الواسطي في القرن الثالث عشر الميلادي فهي موجودة في في مكتبة فرنسا الوطنية (Bibliothèque Nationale de France) في باريس ضمن مخطوطة لمقامات الحريري ورسومات الواسطي. رقم المخطوطة في المكتبة هو الرقم 5847.

([2]). المقامات (مفردها مقامة) من الفنون النثرية وتمتاز بمحتوى وإطار معيّن، كان أوّل من استحدثها ابن دريد، وأشهر المقامات هي مقامات بديع الزمان الهمذاني ومقامات الحريري. والمقامة لغويا تعني المجلس والسادة. أي المقامة تعني اجتماع الناس ويُقالُ “مقامات الناس مجالسهم. أدبيا تشكّل المقامة ما يمكن اعتبارها قصّة قصيرة تُروى ببراعة لغوية وأدبية في قالب نثري قائم على السجع والصنعة اللفظية.

([3]). كلود ميلاسو Claude Meillassoux هو عالم أنثروبولوجي واقتصادي فرنسي ماركسي، التزم طوال حياته بنقد الظلم الاجتماعي، وتوفّي عام 2005.

([4]). أورلاندو باترسون Orlando Patterson هو عالم اجتماع جامايكي أمريكي، يُدرّس في جامعة هارفارد.

([5]). في الحقيقة يبدو أنّ كاتب المقال قد أخطأ في وسم هذا الاسم بصفة الإمبراطور الصيني، والأصحّ ووفقا لما راجعته في أكثر من مكان، فهو عامل أو ممثّل للإمبراطور الصيني في كوريا. ولا وجود لهذا الاسم بالأساس في سلسلة الأباطرة الصينيّين، وهو يُفترض أن يرد في الأسرة المغولية التي حكمت الصين إذا أخذنا بالاعتبار الفترة التي وضعها الكاتب.

([6]). شونغنيول Chungnyol هو الملك الخامس والعشرون في مملكة غوريو Goryeo، وحكم من 1274 إلى 1308، وهو تم إرساله منذ العام 1271 من قبل والده ليذهب للعيش في بلاط الأسرة المنغولية الحاكمة للصين وكوريا. توفّي في العام 1308 ليخلفه ابنه في الحكم. Chung هي لاحقة بادئة لأي اسم من أسماء ملوك كوريا للدلالة على روح الولاء لأسرة يوان الصينية. بقيت سلالة مملكة غوريو خاضعة للأسرة المغولية حتى حرّرها الملك غونغمن Gongmin Wang في منتصف القرن الرابع عشر.

([7]). أشمط الشعر بمعنى اختلط سواده ببياضه، والمصدر شمط. تعني كذلك الشعر المجعّد المتموّج.

(([8] . اقتبس وترجم كاتب المقال هذا المقطع من كتاب (البدء والتاريخ/الجزء الرابع من ثمانية أجزاء) لـ (شمس الدين أبو عبد الله محمد بن أحمد بن أبي بكر المقدسي) الذي عاش بين عامي 945 و991. الاقتباس وارد في الصفحة 70 من هذا الجزء، والكتاب من إصدار مكتبة الثقافة الدينية بمصر ولا توجد عليه أية بيانات أخرى سواء عام الإصدار أو رقم الطبعة. آثرت الالتزام بالنص العربي الأصلي، ويمكن لمن لا يود العودة للكتاب قراءة الاقتباس عبر هذا الرابط.

([9]). كتاب ابن سينا “القانون في الطبّ” تُرجم إلى اللغة اللاتينيّة ودُرّس في معظم الجامعات الأوروبية لغاية القرن السابع عشر الميلادي. هذا الكتاب مكوّن من خمسة أجزاء (كتب) وتمّت ترجمته للغة اللاتينية من قبل جيرار الكريموني Gerardus Cremonensis.

([10]). منعا لأيّ التباس استعنتُ بالنصّ العربي الأصل في كتاب ابن صاعد الأندلسي الذي استعان به الكاتب الألماني وهو أكثر فظاعة من الترجمة الألمانية، وحاولت الالتزام بما اقتبسه الكاتب مع إيراد الأصل المقابل من العربية لأنّ الكاتب حذف بعض الكلمات من المقطع، والنص العربي الأصلي الذي عنون ابن صاعد هذا المقطع أو الفصل فيه “الأمم التي لم تعن بالعلوم” يمكن قراءته عبر هذا الرابط.

([11]). ذكر ابن خلدون ذلك في إطار ملاحظاته التي دوّنها في أثناء إقامته بقلعة (بني سلامة) في الجزائر، وقد اقتبس (فرانز فانون) اقتباسا شبيها بهذا الاقتباس في كتابه (بشرة سوداء، أقنعة بيضاء).

([12]). حاخام وطبيب وفيلسوف وشاعر أندلسي ويهوذا هاليفي هو اسم الشهرة الذي عُرف به لكنّه يُعرف أيضا باسم آخر وهو (يهوذا اللاوي)، درس الفلسفة اليونانية والأدب العربي وكان قريبا من الغزالي في موقفٍ الريبة في الفلسفة وتأثيرها السلبي في الدين، ومن أهم كتبه كتابا (الخزري) و(الحجة والدليل في نصرة الدين الذليل). توفّي في مدينة القدس.

([13](. موسى بن ميمون وعٌرف في الغرب باسم (ميمونيديس) أو (رمبام) وهو فيلسوف يهودي أطلق عليه العرب لقب (الرئيس موسى)، وكان الفيلسوف اليهودي الأكثر تأثيرا في القرون الوسطى، وكان من أهم الأعلام التي استرشدت بهم حركة التنوير لدى يهود أوروبا الشرقيين المعروفة بـحركة (هاسكالا Haskala) التي نشأت في القرن الثامن عشر ودعت لتبنّي قيم عصر التنوير واندماج اليهود الأوروبيين في مجتمعاتهم. عاش في قرطبة بالأندلس وتوفّي في طبريا.

تأثّر بابن رشد وأفلاطون ولُقب بأرسطو عصره وحاول الجمع بين مختلف التيّارات الروحية اليهودية ولا سيما المتعارضة فيما بينها وحاول كذلك البرهان على جدلية تعاقب الصعود والهبوط أو الازدهار والانحطاط لدى أي شعب ونفي نظرية أن كل شعب لديه فقط فترة ازدهار واحدة ثم فترة انحطاط لا تسمح بعودة الازدهار، وحاول تفسير التلمود فلسفيّا، كما أن البعض يراه قريبا جدا من ابن رشد وخاصة حول رأيه القائل إنّ الإيمان الراسخ لا يمكن أن يحمل تناقضا بين الفلسفة والدين، وهذا رأي أورده قبل مقولة ابن رشد الشهيرة “الحق لا يضاد الحق بل يوافقه ويشهد له Die Wahrheit darf der Wahrheit nicht widersprechen, im Gegenteil, sie verstärkt sie und legt von ihr Zeugnis ab” والتي أوردها في مقاله عن الفلسفة واللاهوت (Traktat über Philosophie und Theologie).

أما كتابه (دلالة الحائرين) الذي يُطلق عليه بالألمانية اسم آخر (Führer der Unschlüssigen) فقد كان رسالة إلى تلميذه الحاخام اليهودي (يوسف بن عقنين) وكُتب كذلك باللغتين العربية والعبرية.

([14]). حرصتُ في ترجمة هذا الاقتباس أيضا على ترجمته بما ورد في نص الكتاب باللغة العربية والذيُ كُتب باللغتين العربية والعبرية وقام (حسين أتاي) بترجمة النصوص العبرية فيه وقدّم له، والنص العربي لمجمل الكتاب يمكن قراءته أو تحميله عبر هذا الرابط، أما الاقتباس فقد ورد تحديدا في الصفحة 715 من الكتاب. وتتمة الاقتباس الذي يورده الكاتب منقوصا غير مكتمل هو: “وها أنا أشرح لك هذا المثل الذي ابتكرته فأقول: أما الذين هم خارج المدينة فهم كلّ شخص إنسان لا عقيدة مذهب عنده، لا نظرية ولا تقليدية، كأطراف الترك المتوغّلين في الشمال، والسودان المتوغّلين في الجنوب، ومن ماثلهم ممّن معنا في هذه الأقاليم وحكم هؤلاء كحكم الحيوان الغير ناطقوما هؤلاء عندي في مرتبة الإنسان، وهم من مراتب الموجودات دون مرتبة الإنسان، وأعلى من مرتبة القرد. إذ قد حصل لهم شكلُ الإنسان، وتخطيطه وتمييز فوق تمييز القرد“. الكتاب من إصدار مكتبة الثقافة الدينية

([15]). Rasse. هذه الكلمة تعني السلالة أيضا.

([16]) هذه الكلمات يُختلف على جنسها ونوعها (بين مذكّر ومؤنّث) حتى في اللغة الألمانية كما هي الحال مع كلمة (العراق) التي يمكن تذكيرها أو تأنيثها، ولكنّها تدلّ كلها على العرق والأصل، وكلمة race هي بالإنكليزية، وكذلك توجد كلمة ألمانية أخرى من الألمانية القديمة وهي reiza التي تعني (الخطّ). وتوجد كلمة يونانية هي rhíza التي تعني الجذر، كما إنها كانت تُستخدم في تصنيف سلالات الأحصنة والكلمة العربية (سلالة) كلمة دارجة.

([17]). يمكن لمن يودّ مراجعة هذه المادة الصغيرة عن العرق وكلمة razza باللغة الإيطالية عبر الرابط.

([18]). تشير صفة العلموية هنا إلى نظرة ازدرائيّة لهذه النظرية المعتمدة على تصنيف البشر وفقا للمناخ إلى سلالات دنيا وعليا.

([19]). وردت هذه اللعنة في سفر التكوين بالكتاب المقدّس، وهي اللعنة التي أطلقها نوح على ابنه حام (أبناؤه الثلاثة هم سام وحام ويافث)، حيث رأى حام عورة أبيه نوح الذي كان في حالة سكر وثملا، وقام بفعلٍ مخزٍ به، ولكنّ الغريب أنّ لعنة نوح كانت موجّهة لابن حام وهو (كنعان)، وقد ورد في الإصحاح التاسع من التوراة:

20 وبدأ نوح في العمل فلاحاً، وغرس كرماً:

21 وشرب النبيذ فسكر وتعرى في خيمته.

22 فأبصر حام أبوكنعان عورة أبيه، وأبلغ أخويه بالخارج.

23 فأخذ سام ويافث الرداء ووضعاه على أكتافهما ومشيا إلى الوراء، وسترا عورة أبيهما ووجهاهما إلى الوراء. فلم يبصرا عورة أبيهما.

24 فلما استيقظ نوح من خمره، فهم ما عمل به ابنه الصغير.

25 فنطق: ملعون كنعان عبد العبيد قد يكون لإخوته.

26 ونطق: مبارك الرب إله سام. وليكن كنعان عبدا له.

27 ليفتح الله على يافث فيسكن في خيام سام، وليكن كنعان عبدا له.

والتلمود البابلي يربط بين لعنة حام والبشرة السوداء، واللعنة على العموم تُفسّر كتبرير لفرض العبودية على السود. من التفسيرات الأخرى أن حام لم ير عورة أبيه بل رأى أمه في إشارة لسفاح القربى. والمثير أنه توجد أساطير أيرلندية تجعل من حام الكائن الأساسي فيها، بينما أوّل من انتقل للسكن في أيرلندا هم سلالة حام. أما أهم السلالات التي تُردّ إلى الحاميين فهم المصريون والحوريون والكوشيون والأمازيغ. وهنالك تفسيرات وتأويلات سياسية لهذه اللعنة.

([20]). ديفيد غولدنبرغ David Goldenberg مدرّس في جامعة بنسلفانيا، ويُشير الكاتب إلى مقالٍ له بعنوان (ماذا فعل حام بنوح What Did Ham Do to Noah؟) ويمكن تحميل أو قراءة المقال بالإنكليزية عبر هذا الرابط.

لكن غولدنبرغ أصدر كذلك كتابا في عام 2017 وعنوانه (السواد والاستعباد: أصول وتاريخ لعنة حام Black and Slave: The Origins and History of the Curse of Ham) وفيه يلاحق الدراسات المتعلّقة بلعنة حام والفرضيات التي تجد أن الإنجيل يملك دعوة للعبودية، كما يناقش مسبّبات العبودية القائمة على البشرة السوداء وكيف تحوّلت قصّة أسطورية إلى قصّة وتاريخ للعبودية، وأيضا يعالج تغيّر الصياغات التي تناولت هذه اللعنة مع مرور الوقت وفقا للسياقات الاجتماعية والتاريخيّة وصولا لتحوّل السواد العرضي إلى لعنة. يمكن معرفة تفاصيل أكثر عن غولدنبرغ في هذا المجال عبر هذا الرابط.

([21]). آثرتُ هنا أيضا الاتيان بنصّ بن قتيبة ليكون نوعا من التحقّق والتحقيق في اقتباسات كاتب المقال، وقد نقل ابن قتيبة كلامه عن (وهب بن منبه)، ويمكن قراءة كامل الاقتباس الذي اجتزأه الكاتب عبر هذا الرابط.

([22]). الكاتب يقصد (أحمد بابا التمبكتي) أحد أهم فقهاء المالكيّين ومؤرّخي التراجم في السودان الغربي. نُفي إلى مراكش في العام 1593، ولذلك تتلمذ على يديه كثير من المغاربة. من أهم كتبه التي تناول فيها قضية العبيد في السودان كتاب (معراج الصعود إلى نيل حكم مجلب السود). كانت السودان سوقا للعبيد وتصديرهم إلى المغرب التي كان يحكمها السعديّون آنذاك. يمكن معرفة تفاصيل أكثر عنه عبر هذا الرابط أو عبر الرابط.

([23]). أوّل من ذكر هذا المصطلح (مجتمع مالكي العبيد Sklavenhaltergesellschaft) كان كارل ماركس في إطار وصفه للمجتمعات القديمة وفقا لأسلوب الإنتاج فيها، حيث قال ماركس إن ثروة هذه المجتمعات تزداد من خلال خلق وتراكم القيمة المضافة عبر أسلوب السخرة، وماركس وجد الرأسمالية نفسها منتجة للعبودية، ولذلك يُذكر هذا المصطلح في إطار ذكر الثالوث الناجم عن الصراع الطبقي في التاريخ: (مجتمع مالكي العبيد Sklavenhaltergesellschaft، الإقطاعية Feudalismus، الرأسمالية Kapitalismus).

كان فريدريش آنجلزFriedrich Engels الذي اعتمد على أبحاث الأمريكي لويس مورغان Lewis H. Morgan قد أكّد على أنّ مجتمع مالكي العبيد قد أتى لاحقا على مجتمع المشاعية البدائيّة Urkommunismus، ودعا آنجلز إلى عدم الخلط بين مجتمع مالكي العبيد و”نمط الإنتاج الآسيوي Asiatische Produktionsweise” الذي ذكره كارل ماركس في إطار وصفه لتنظيم العمل في التشكيلات الاجتماعية والاقتصادية السابقة على الرأسمالية. يقول آنجلز: “العبودية هي الشكل الأوّل للاستغلال الخاص بالعالم القديم، تتبعها القنانة في العصور الوسطى، العمل بأجر في الفترة الأخيرة. إنّها الأشكال الثلاثة الأكبر للعبودية، التي وسمت المراحل الثلاثة الكبرى للحضارة”.

([24]). والاسم الكامل هو Crónica do descobrimento e conquista da Guiné، وهي كانت بمثابة صحيفة رسمية للوقائع اليومية عن غزو واحتلال غينيا بغربي أفريقيا لأنه وإن كان كتابا تاريخيا فهو كُتب بناء على طلب الملك البرتغالي آنذاك، واسمها يعني يوميّات أو سجلّات غينيا، دوّن فيها المؤرّخ البرتغالي غوميز دي زورارا Gomes de Zurara الاكتشافات على الساحل الأفريقي الغربي وفيها سرد تفصيلي لأهم البعثات الاستكشافية للبرتغاليين.

([25]). غوميز دي زورارا Gomes de Zurara هو أحد أهمّ مؤرّخي البرتغال لعصر الكشوفات الجغرافية ولا سيما بواكيرها، وقد كتب عن احتلال مدينة سبتة وكذلك احتلال غينيا، واعتمد أسلوب الرسائل في كتابته وتاريخه.

([26]). إسم تاريخي للمنطقة الجغرافية الواقعة في غربي أفريقيا بين نهر السنغال في الشمال ونهر غامبيا في الجنوب. وهذا الاسم أتى بعد تشكيل اتحاد كونفدرالي لفترة قصيرة بين غامبيا والسنغال أطلق عليه اسم وذلك في الفترة ما بين 1982 و1989. تم حل الاتحاد من قبل السنغال في 30 سبتمبر .1989

([27]). يُقصد بمصطلح Leitidee الفكرة المركزية التي تصبح بؤرة الاهتمام، لكن الأهم أنها فكرة يتم التركيز عليها عبر التواصل، أي أنها فكرة تواصلية، تماما كما هي حال ما يُصبح عنوانا لـ (هاشتاغ) على مواقع التواصل الاجتماعي بحيث يتم إشراك الجمهور في التركيز على الفكرة لمناقشتها وإثرائها لما يفيد توضيحها وانتشارها.

 

نُشر في موقع حكمة والرابط إليه هنا.

 

لماذا يستحق هابرماس نصبا تذكاريا؟

لماذا يستحق هابرماس نصبا تذكاريا؟

مقدمة المترجم

مع تواجدي في ألمانيا بصفة لاجئ، يكاد لا شيء يُشعرني بالأمان فيها أكثر من وجود الفيلسوف يورغن هابرماس Jürgen Habermas، بينما لسان حالي مع أيّ تخبّط للحكومة الألمانية في سياساتها عن اللجوء:

هل استرشدت ميركل بآراء يورغن هابرماس؟

فهابرماس ليس فقط “أحد أهمّ فلاسفة وعلماء الاجتماع في العالم في الوقت الحاضر” حسب تلميذه أكسل هونيث Axel Honneth، بل إنّ أفكاره غالبا ما تشكّل توجيها عمليا وربّما إجاباتٍ لقضايا المجتمع الألماني.

الدستور والقوانين الوضعية في الدولة الليبرالية بحاجة إلى شرعنة، فالجوهر الأخلاقي للدولة يجده هابرماس حيث لا يُطبّق فيه القانون الذي يتوجّب عليه الارتكاز على قناعاتٍ أخلاقية قبل القناعات السياسية.

أن يتحفّز مواطن ليركب المخاطر من أجل اللاجئين أو الأجانب في ألمانيا، فالقانون فيها لا يفرض ذلك بالقوّة وإن كان يحثّ عليه، لتأتي دعوة هابرماس لتحسين النسل الليبرالي ومستقبل الطبيعة البشرية بإحالة إلى مقولة الكاتب السويسري ماكس فريش Max Frisch:

“ماذا يفعل الإنسان بالزمن الذي قُدّر له أن يعيشه؟ هذا هو السؤال الذي أكاد لا أعيه، إنّه سؤالٌ يثيرني فقط” ([1]).

يُعرّج على تأمّلات ثيودور أدورنو Theodor W. Adorno عن الحياة الخاطئة والعلم الحزين، قبل أن يمدح كيركغارد Søren Kierkegaard مع السؤال الأخلاقي للحياة، ثمّ يعارضه برؤية جمالية عن المفهوم الما ورائي “القدرة على أن يكون ذاته”([2])، وهي الجملة التي سنكتشف أنّها قد تختصر حياة هابرماس نفسه.

يؤمن بالحوار وبعالمنا المعاش والاندماج الاجتماعي أكثر من أية نظرية اجتماعية أو سرديّة كبرى من سرديات الفلسفة، فهو نفسه أكبر سرديّة من سرديات الفلسفة.

يبدو هابرماس وكأنّه يمثّلُ تلك اللدغة الجدلية der dialektische Stachel التي غابت عن الأخلاق اليونانيّة مقارنة بالأخلاق اليهوديّة والمسيحيّة والإسلامية والزرادشتية، المسمّاة في اليهودية بالمسيانية Messianismus وتستند على فكرة الإيمان بالمسيح المخلّص.

اللدغة الخلاصية لدى فالتر بنيامين Walter Benjamin وصفها هابرماس بأنّها أهم حتّى من الرؤية المسيحيّة عن المسيح المخلّص، لكن هابرماس أشار إلى فكرة صوفيّة يهوديّة قريبة من التصوّف الإسلامي وهي فكرة تشابك أو “حلول الذات في الله Selbstverschränkung Gottes” التي تناقضُ فكرة ضبط النفس Selbstbeschränkungen في التحليل النفسي كسمة شخصيّة تبزغُ عن العقل أو التحليل المعرفي أو كنتيجة للعقل المستنير لدى كانط، أو لدى هوميروس وأسطورة صفّارات الإنذار التي كانت تُجبر أوديسيوس Odysseus على الهرب من سماع أغنية فيها حتفه.

كثيرا ما اعتذر هابرماس عن حضور بعض الجلسات الحوارية سواء كضيف أو كمساهم فيها، إذ به خوفٌ من أن يبدو كمن يؤرّخ لذاته بالتعليق على كلّ جلسة حوارية، فالتأريخ للذات Selbsthistorisierung يراه الأسوأ ويفضّل أن يتعلّم شيئا وهو يناقش مشاكل المجتمع، أي ليُعلّمه الآخرون شيئا مفيدا.

مجتمعنا المعاصر الذي يُشوّه كينونتنا بتحوّله “من مجتمعٍ مشهدي إلى مجتمعٍ تعليمي” بتوصيف الفيلسوف الفرنسي الراحل ميشيل سير Michel Serres، يُشكّل فيه حضور فيلسوف بقيمة يورغن هابرماس، يؤمن بالمساواة ويثق بالعقل كوفاءٍ أبديّ لمبادئ التنوير الأوروبي، ضمانة كبرى لمنعه من الانحراف نحو الأسوأ، في وقتٍ امتلأ فيه هابرماس نفسه بالخوف من فقدان “الجوهر الحقيقي للتقاليد والإلهامات الغربية Substanz der genuin westlichen Traditionen und Inspirationen“.

يُبشّرنا بأنّ الرأسمالية المنفلتة يمكن أن تكون تحت السيطرة، ليُحيلنا للعقلانية ويومئ لنا بضرورة إلغاء مركزية المشروع الثقافي الغربي، لكنّه لا ينسى أن يشير إلى الخلل القاتل في الماركسية المتمثّل بانغماسها في النزعة اليقينية، وصوابية تحليلات ماركس عن الرأسمالية وخطأ تنبّؤاته، وصولا للضعف الديمقراطيّ في الماركسية، فالسيطرة على عمليات الحياة لا تضمن تحكّما تلقائيّا بعملية الإنتاج Produktionsprozesses على الإطلاق، وهو ما عبّر عنه تيري إيغلتون Terry Eagleton بأنّ العقيدة المتشدّدة والدولة التعسّفية ليست بديلا عن “الخضار في الدكّان”([3])، ولطالما عبّر عنه برتولد بريخت Bertolt Brecht في قصائده حين كان يشعر بأنّ ألمانيا قد تحوّلت لأمّ شاحبة تئنُّ من الجوع، بينما يغدو الحصول على الغداء جسارة.

يورغن هابرماس والماركسية

ترسّخ نقد كارل ماركس Karl Marx للاقتصاد السياسي ليس فقط كمعيارٍ نقديّ لنظام الاقتصاد البرجوازي System der bürgerlichen Ökonom، بل كوعاء للحقائق كلّها، قادر على تفسير التناقضات الاقتصادية والاجتماعية، خاصة بعد تحييده لمثالية الديالكتيك الهيغلي Idealisms der Hegelschen Dialektik، لتسيطر الماركسية على مجمل الواقع الاجتماعي كنظرية قادرة على تحليل منطق ومقدّمات الرأسمالية Prämisse des Kapitalismus وبديهيّات تطوّرها التاريخي.

لكن الاشتراكية بجعلها السيطرة على الفكر ضرورة أزلية وقعت في فعلٍ رجعي بتأكيد من أدورنو، فأن تُصبح الضرورة قاعدة تكون الاشتراكية وفلسفتها قد ظلّت على تواصلها مع إرث الفلسفة البرجوازية. ([4])

وصف هوركهايمر التوتاليتارية بأنّ الكذب فيها صارخ والنظرية النقدية تتكفّل دوما بأداء وظيفتها بمحاكمة كل مرحلة تاريخية وفقا لمضمونها وأصالتها، لينتهي بالقول: “كلّ فلسفة تفكّر في إيجاد السلم بذاتها، في حقيقةٍ ما، لا علاقة لها بالنظرية النقدية” ([5]) في إشارةٍ للماركسية.

مشروع يورغن هابرماس عن إعادة صياغة النظرية الاجتماعية النقدية Reformulierung der kritischen Gesellschaftstheorie فرض عليه مواجهة التقاليد الماركسية، ولا سيما مفهومي العمل والإنتاج، ليستبدل مفهوم علاقات الإنتاج Produktionsverhältnis الماركسي بمفهوم الأطر المؤسّساتية institutionellen Rahmens، لتوسم ممارساته كشاب بالممارسة الثورية خاصة بعد حديثه عن الإلغاء النقدي للأيديولوجيّات kritischen Aufhebung von Ideologien.

اعترف هابرماس بأنّ الأيديولوجيّات لا تزال تملك فعّالية كبيرة، لكنّ لعب دور الناقد الأيديولوجي Ideologiekritikers باستمرار لا يُشعره بالراحة، وقد سُئل عن طريق ثالثة غير الماركسية والرأسمالية، فأشار إلى أنّ ماركس لمّح في مخطوطاته الاقتصادية الفلسفيّة إلى التنشئة الاجتماعية Vergesellschaftung ([6]) كفكرة بديلة عن فكرة التأميم Verstaatlichung أو الليبرالية الجديدة Neoliberalismus، في إشارةٍ لفكرة مارغريت تاتشر Margaret Thatchers عن الليبرالية الجديدة وقولها المعروف “لا يوجد بديل There is no alternative”.

لا يلمح يورغن هابرماس في هذا العالم المعولم أيّة حركة سياسية أو اجتماعية تتبنّى هذه الفكرة البديلة، فهو عالمٌ معقّد لدرجة أنّ أيّة ثورة قد تفشل قبل أن تبدأ، لكنّ ذلك لا يمنعه من الحديث عن أزمة شرعية في الرأسمالية Legitimationskrisen im Kapitalismus.

دعا هابرماس إلى كبح جماح الرأسمالية الماليّة Finanzkapitalismus، ليسخر منه الفيلسوف الألماني جورج لوومان Georg Lohmann معتبرا أنّ هابرماس متفائلٌ بنزعته الإصلاحية في الممارسة العملية والاجتماعية حيث يلعب دور المثقّف العام، على عكس حاله في الجانب النظري فهو متشائم جدا فيما يتعلّق بالأهداف التي يمكن تحقيقها.

ادّعى لوومان أنّ هابرماس تسمّم في شبابه بفلسفة شيلينغ Friedrich Schelling ثمّ خاب أمله مع أطروحته ” المطلق والتاريخ؛ حول التناقض في فكر شيلينغ Das Absolute und die Geschichte. Von der Zwiespältigkeit in Schellings Denken “، وهو لم يتخلّص بعد من تأثيرات منبعين أساسيّين لفكره: كانط Immanuel Kant وفالتر بنيامين، وأنّ لفلسفته جذورا مسيحيّة.

أقرّ هابرماس بالجذور المسيحيّة، مؤكّدا أنّ التفاؤل لا يُشكّل لديه دافعا فقط بل والتزاما بالتفكير ضدّ اليأس، ومعلنا رفضه للبراغماتية المفرطة في مقولة هوركهايمر: “أمل العقل يكمنُ في التحرّر من مخاوفه التي تخصّه هو نفسه أمام اليأس“.

هوركهايمر كان قد كتب كتابا في تأبين هذا العقل وأفوله في العام 1947، وهو ما رآه هابرماس خيانة للتنوير، أما بنيامين فقد وصف الأمل: “وُجد الأملُ من أجل أولئك الذين لا أمل لهم”، وكتب: “يتوازى اليقين بالنعمة التي يفوز بها العاشقان، في الرواية القصيرة، مع الأمل الذي نُغذّيه في الخلاص لجميع الموتى.. ذلك الأمل في الخلاص هو لمن لم يعد بإمكانهم الأمل، أي الموتى…إنّنا نأملُ أن يُبعث العشّاق الموتى، إذا ما بُعثوا، لا في عالمٍ أجمل بل في عالم مبارك”. ([7])

تساءل هابرماس فيما إذا كان ماركس قد دعم نظرية للتواصل في المادّية التاريخية، ليستنتج أنّ ماركس فشل في نظريته الاجتماعية لافتقاده لتلك النظرية التواصلية، ولأنّه كان عالقا في شمولية هيغل Totalitätsdenken Hegels فقد أساء تفسير التطوّر الاجتماعي، عدا عن افتقاره للذخيرة المفاهيميّة  Begriffsrepertoire التي تُمكّنه من تبرير عمليات التحديث، خاصة وأنّه كان ملزما بتبرير علاقة سيطرة غير مشروعة بالأساس عبر الربط بين الدولة والاقتصاد، فالديمقراطية ليست مجرّد أيديولوجيا كما فهمها ماركس بشكلٍ خاطئ، والدولة الديمقراطية لا تسمح لنفسها بأن تصبح أداة هيمنة.

شفّة الأرنب وجذور فلسفة يورغن هابرماس

وُلد يورغن هابرماس في عام 1929 في مدينة دوسلدورف Düsseldorf بتشوّهٍ خلقي يُعرف بـ “شفّة الأرنب Hasenscharte” ([8]) التي تترك تشوّها في الوجه والفم، ويبدأ في الرحم منذ المراحل الأولى من الحمل.

عدم وجود أنسجةٍ كافية في منطقتي الفم والشفّة يمنع اندماجها بشكل كافٍ، فيتولّد شقّ فاصل بين طرفي الشفّة العليا، ما يمنع نزول السوائل والأطعمة إلى المعدة، وقد تتجمّع السوائل في الأذن الوسطى لتؤدّي إلى فقدان السمع، ويخرج الصوت مع النطق من الأنف مشوّها، وهابرماس وجد مشاكل كبيرة في النطق وكان كلامه غير مفهوم.

عانى هابرماس من تمييز أقرانه وسخريتهم بسبب ذلك التشوّه في حنكه الذي أُجريت عليه عملياتٌ امتدت على مدار فترة زمنيةٍ طويلة، ليخوض مسيرة كفاحٍ طبّي جراحي لإزالة آثاره. هذا دفعه للتأكيد على أن الكرامة الإنسانية يجب ألا تُمسّ بين أشخاصٍ يتبادلون الاعتراف ببعضهم البعض بشكلٍ متساوٍ.

اعتبر أنّ الحيوانات أيضا يحق لها الاستفادة من الواجبات الأخلاقية للبشر لأنّها مثلهم كائنات حسّاسة للألم، وإن كان البشر أكثر عرضة للجراح والأشجان الناجمة عن العلاقات الاجتماعية.

تحدّث هابرماس في أكثر من مناسبة عن الجذور الشخصية لفلسفته التي سمحت له بإعادة تعريف الفلسفة وربطها بالمجتمع وخدمته، وبتحوّلات الفضاء العام الذي حرص على التقاط أسئلته باستمرار ثم محاولة الإجابة عليها فلسفيّا.

في عام 2004 ومع منحه “جائزة كيوتو KYOTO-PREIS([9]) اليابانية للإنجازات العالمية التي تتناول الإنسانية، أشار هابرماس إلىثلاث تجارب شخصية في المراحل الأولى من حياته كانت حاسمة كحوافز أساسيّة دفعته للبحث في الخطاب والفعل التواصلي ونظريته الأخلاقية.

أشار أولا إلى أنّ العمليات الجراحية التي أجراها على حنكه يجب أن تُعزّز من إدراك البشر لترابطهم وتضامنهم، فالإنسان الذي يولد “غير نهائي” بالمعنى البيولوجي يحتاج لاعتراف محيطه الاجتماعي ومساعدته، قبل أن يُشير باندهاش إلى مفهوم نسبة المواليد في نظرية حنّه أرندت Hannah Arendt عن الفعل ([10]).

يُلحّ يورغن هابرماس على ما أشارت إليه أرندت من أنّ كلّ ولادة تمثّل أملا بأن أحدا آخر مختلف سيأتي ليكسر سلسلة العود الأبدي، كإسقاط للوعد التوراتي “لقد وُلد لنا طفل” على كلّ ولادة. قالت أرندت:

“مع ولادة طفل، أيّا يكن، فإنّ ما يبتدئ ليس فقط تاريخ حياة أخرى، بل تاريخ حياةٍ جديدة”([11]).

فالحياة الجديدة تُشير إلى التفرّد والاختلاف، ومن شأن هذا الكائن الذي حضر لتوّه أن يخلق بنفسه بداية جديدة قد تغيّر شكل العالم كلّيا.

شبّه هابرماس الولادة الجديدة والحرية التي يشعر بها من يمارسون الفعل بالخطّ الفاصل بين أرضٍ بور وأرضٍ تُزرع لتوّها، ففي كلّ ولادة تميّزٌ وتمايز ينشأ بين القدر المرتبط بدخول الشخص للحياة الاجتماعية وقدر جسمه، كمن يتحدّث عن قدر جسمه ذاته وعن سيرته الذاتيّة الفريدة حقّا. بقي هابرماس متماهيا مع ذاته وهو ما يعتبره شرطا لنشعر بأنفسنا فاعلين لأفعالنا ومنبعا لمتطلّباتنا.

ينظر هابرماس إلى الحدس Intuition كمصدرٍ لوعينا بوصفنا فاعلين، فهو ما يحثّنا على تبنّي سيرة نقدية تعبّر عنا، إذ لا ينبغي أن نصبح نتاج ظروفنا الاجتماعية وحدها وإلّا سنتوه عن كينونتنا، أمّا وجودنا وقدرنا الطبيعي فيكمن في سيرورة الحياة الاجتماعية، وما يمنحنا قدرة خرق هذا القدر الطبيعي يتمثّل في وعي الحرّية.

تشعر بهابرماس قريبا من الفلسفة المثالية لتعويله الكبير على الحدس، فالإيطالي بنيديتو كروتشه Benedetto Croce اعتبر أنّ كلّ إنسان يولد ومعه حساسية فنية بدرجة ما وهي ما يسمّيه الحدس التعبيري أو الإدراك الحسّي Aesthesis ويُسمّيه هنري برغسون Henri Bergson “الدافع الحيوي” أو “النازع الحيوي Élan vital ” كقوّة خلقٍ تتحوّل معها المعرفة إلى صانع للواقع باستكشاف باطن الموضوع ويفترق عن الغريزة بالتفكير والتأمّل. وفقا لبرغسون “ليس هناك عقلٌ لا نكشف فيه عن بعض آثار الغريزة، ولا غريزة غير محاطة فوق ذلك بأهداب العقل”. ([12])

هذا الحدس كوجيتو للوعي الاستشرافي يمتاز بالديمومة التي تسمح لهابرماس بتطوير أفكاره المعبّرة عن وعيه، ليخلق انسجاما بين الفلسفة والحياة كأنّما يتخلّى عن توسيط المفهوم الفلسفي ولو إلى حين، أو كأنّ عقله مُشبع بالغريزة لشدّة واقعيّته وملاحظته لهذا الواقع وتقلّباته، فولاؤه لهذا الواقع هو ما منعه من التوافق مع تفكيكيّة جاك دريدا التي قد تسرقه من هذا الواقع.

وصف يورغن هابرماس دوافعه الفكرية ودور الحدس الجوهريّ لديه:

لديّ دافعٌ فكريّ محفّز وحدسٌ أساسي، وهذا يعود إلى تقاليد دينية كتلك التي لدى البروتستانت أو المتصوّفة اليهود.. الدافع الفكريّ المحفّز هو التصالح مع الحداثة المتفكّكةُ في مكوّناتها، فالتصوّر القائل بأنّه بدون التغاضي عن التباينات التي أتاحتها الحداثة وجعلتها ممكنة، يلحظ المرء أشكالا من التعايش تدخل فيها الاستقلالية والتبعية في الواقع في علاقة مهادنة واطمئنان: بحيث يكون بإمكان المرء أن يمشي واثق الخُطا في مجتمع مشترك، دون أن يراوده شكّ في أنّ جوهر الانحطاط في المجتمع والتعايش الاجتماعي إنّما هو نابعٌ منه([13]).

هذا يُشير لحجم خلافه مع كثيرين ممن يبدو متآلفا معهم ظاهريا، لكنه يوضّح الدافع لمسلكه النقدي. أمّا مكوّنات الحداثة المتفكّكة فتُحيلنا إلى ماكس فيبر Max Weber الذي أشار إلى خاصيّة الحداثة الثقافية الكامنة في أنّ العقل الأساسي الذي تمّ التعبير عنه سابقا بصور دينية وميتافيزيقية للعالم قد انقسم لثلاثة أقسام لا يمكن جمعها إلّا شكليا. ([14])

يُلحُّ عليه الحدس ليتفاعل مع الأشياء بتلقائيّته، فالتفكير العلمي يمتاز بالبطء أحيانا للوصول إلى مخرجاتٍ مترابطة بمنطق مقبول. اعتبر آينشتاين الحدس نتاج تجربة ثقافية باكرة، وتجربة هابرماس ومعاناة طفولته كانت تجربة ولّادة باستمرار، لكنّ فلسفة نيتشه Nietzsche كلّها قائمة على الحدس وهابرماس يكاد يمحيه من الفلسفة الألمانية.

حتى وهو يتحدّث عن قناعاته العلمية، لا بدّ لهابرماس أن يُعرّج على الحدس:

هنالك أيضا جوهرٌ عقائديٌّ في قناعاتي. أُفضّل أن أُسلّم قيادي للعلم، بدلا عن السماح لهذا الجوهر بأن يضعف، لأنّه هو ذاته ذلك الحدس الذي لم أكتسبه من العلم، ولا يوجد إنسان يكتسبه عبر العلم، بل ينمو وسط البشر، الذين يتوجّب عليه أن يتجادل معهم ويكتشف نفسه فيهم“.

أمّا تجربتاه المريرتان في النطق اللفظي المشوّه، والتمييز الذي عُومل به من أقرانه بسبب التشوّه في حنكه، فقد أثارتا لديه حساسيّة وقناعاتٍ خاصة. وصف هابرماس النطق عبر الأنف die Nasalisierung بأنّه كان سببا أساسيا في تقديره للكلمة المكتوبة أكثر من الكلمة المنطوقة طوال حياته.

ورد في رؤيا يوحنّا: ” والكلمةُ صارَ جسداً وحَلَّ بيننا”. يوحنا تعامل مع الكلمة كمذكّر، بينما أفلاطون اعتبر الكلمة النابضة بالحياة مصدرا للبصيرة. سقراط اعترض على الكتابة حسبما نقل عنه أفلاطون في محاورة ” فيدروس” اعتقادا منه أنّ الكتابة قد تقضي على الذاكرة وأنّ قراءة الطلاب لما كُتب قد توهمهم أنهم تحصّلوا على المعرفة وهي ليست سوى معلومات.

مع تقدّمه في العمر أصبح يورغن هابرماس يفضّل الكلمة المكتوبة على المنطوقة أكثر فأكثر. ينقل الفيلسوف الألماني رالف دارندورف Ralf Dahrendorf الذي كان مساعدا لهوركهايمر وقدّم أطروحاتٍ هامة عن الصراع الطبقي في المجتمع الصناعي، عن أدورنو قوله عن هابرماس:

إنّ لديه شفّة الأرنب ولا يستطيع القيام بالتدريس، ولذلك سيكون لائقا للبحث فقط“.

نظر هابرماس لتشوّهه الخلقي بكل بساطة كصدفة غير سعيدة، ليؤكّد مع صدور “نظرية الفعل التواصلي” في عام 1981 على أنّ النظريات الاجتماعية لها جذور في الحياة بعمومها، مشيرا لأهمّية الحدس العميق كصوتٍ داخليّ يعجز العلم نفسه عن تطويره، أي أنّه فصل بين العلم والحدس مثلما فصل بين العلم والتنوير، ولذلك ليس من المنطق الادّعاء أنّ كل فلسفته نابعة من طفولته.

تجربته الشخصية الثالثة كانت عن الإعاقة اللغوية التي أدّت إلى إقصائه ما دفعه للاهتمام بظروف نجاح أو فشل التواصل اللغوي، واستكشاف أساليب عمل المبادئ الأخلاقية والمعايير الاجتماعية للتعايش.

آمن هابرماس بأنّ فهم الإنسان لنفسه كذات أو كوجود يتغيّر على الدوام، فالقواعد والأخلاقيات التي يقتدي بها تتغيّر مع التطوّر المستمر لحياته، ليخوض في ماهية الإنسان وطبيعته وما يستطيع قوله وفعله في إطار انخراطه في مجتمعه وقضاياه الملحّة في مجمل تحوّلاتها وتغيّراتها، مؤكّدا أنّ الشغف يُعيننا على استحضار الحجج الأقوى والبراهين الأفضل في جدالاتنا وحواراتنا.

لا يُعوّلُ على يقظة متأخّرة للضمير المستتر المُضمر للبشر وبصيرتهم العمياء كي لا يُتّهم بالسذاجة، والخطاب وإن كانت هنالك شروطٌ لنجاحه لكنّه خطابٌ وحوارٌ خالٍ من تسلّط القواعد herrschaftsfreier Diskurs.

يقول كاتب سيرته ستيفان موللر دووم Stefan Müller-Doohm ([15]) إنّ سيرته تتماهى باستمرار مع أعماله وكتبه، فيخبره هابرماس “العمل جارٍ في تصاعد work in progress([16])، ليتأكّد ستيفان أنّه ما زال متشبّثا متمسّكا بحافّة الجسر Geländer.

يعترف يورغن هابرماس بعناده، قائلا:

كل شخص يُغيّر من نفسه في دورة حياته التي يعيشها، لكنّني أنتمي إلى أحد أكثر الأنواع عنادا والتي تُوصف بأنّها ذات هويّة برجوازيّة راسخة. لذا لا أعتقد أنّني قد غيّرتُ من توجّهاتي الرئيسيّة إلا فيما هو ضروري، للحفاظ عليها في ظلّ ظروف تاريخيّة متغيّرة“.

هابرماس والنزعات التبريرية في التاريخ الألماني المعاصر

في شهر حزيران من عام 1986 بدأ في ألمانيا الغربية التي لم تكُ آنذاك قد توحّدت مع ألمانيا الديمقراطية، ما يُعرف بـنزاع المؤرّخين Historikerstreit الذي استمرّ على مدار العامين 1986 و1987 ملخّصا سياق الحياة الثقافية والسياسية في ألمانيا رغم أنّ خلاف المؤرّخين الألمان على المنهجية التاريخية يعود في جذوره للعام 1973.

جوهر النزاع كان السؤال “ما الدور الذي تلعبه خصوصيّة الهولوكوست لتحديد صورة تاريخيّة نهائية لهويّة جمهورية ألمانيا الاتّحادية؟”. كانت ألمانيا حينها في حالة بحثٍ عن وعي وطني جديد.

مذ ذاك أفصح هابرماس عن مفهوم “الوطنية الدستورية Verfassungspatriotismus”، بعد توافقه مع اليسار الليبرالي على تفرّد المحرقة اليهودية كنقطة إرساء للهويّة الجماعية لألمانيا، لتمييزها عن الغرب التقليدي المعروف.

المؤرّخ الألماني المحافظ إرنست نولته Ernst Nolte اعتبر المحرقة رد فعل على الخطر البلشفي الذي لا تقلّ جرائمه عن أفعال النازية، وبالتالي يجب تطهير الألمان من ذنب المحرقة اليهودية.

نولته نشر مقالا في صحيفة “فرانكفورت ألغماين FAZ” عام 1986، بعنوان “الماضي الذي لا يريد أن يُطوى Vergangenheit, die nicht vergehen will” ([17]). أمّا هابرماس فقد نشر مقالا في 11 تمّوز يوليو 1986 معلّقا على تصريحاتٍ سابقة لنولته، وعبر جريدة “الزمن Die Zeit” الألمانية بعنوان “نوع من تصفية الأضرار Eine Art Schadensabwicklung. النزعات التبريرية في التاريخ الألماني المعاصر Die apologetischen Tendenzen in der deutschen Zeitgeschichtsschreibung” ([18]).

لم تقتصر انتقادات يورغن هابرماس الشديدة على نولته، بل طالت مؤرّخين أبرزهم المؤرّخ والصحفي مايكل ستورمير Michael Stürmer، والمؤرّخ العسكري والدبلوماسي أندرياس هيلغروبر Andreas Hillgruber، والتربوي والمؤرّخ كلاوس هيلدبراند Klaus Hildebrand، مدّعيا أنهم يحملون نزعة تبريرية لأعمال النازية من خلال مقارنتها باستبداد ستالين وإرهاب البلاشفة في الإتّحاد السوفياتي السابق.

أكّد هابرماس في مقاله على جملة “الكلمات الرئيسيّة المعبّرة عن روح الزمن Stichworten zur Geistigen Situation der Zeit”، في إشارة لاعتبار هيلموت كول Helmut Kohl إعلان حكومته عام 1982 تجاوزا لـ “الأزمة الروحية geistigen Krise ” بألمانيا آنذاك، وردّا على مفهومٍ عُرف بسببه أولئك المؤرّخون بالمحافظين وهو مفهوم “اليمن الجديد Neue Rechte” المعبّر عن الطيف السياسي المحافظ.

الصحيفة التي نشرت مقال هابرماس وسمته بـ “إعلان الحرب Kampfansage” وهو ما يشير إلى أهمّية هذا النزاع ودوره في تحديد هويّة ألمانيا السياسية.

في عام 1984 زار هيلموت كول إسرائيل، ليُعلن منها تعبيره الشهير “نعمة الولادة المتأخّرة Gnade der späten Geburt” الذي اقتبسه من الصحفي الألماني غونتر غاوس Günter Gaus المتوفّي عام 2004.

الولادة المتأخّر تعني أنّ أولئك الألمان الذين وُلدوا بعد العام 1930 لا يحملون أيّ إثمٍ في جرائم النازيين لأنّهم لم يكونوا أحرارا في خياراتهم السياسية. وهنا يبدو ملفتا أنّ قدامى المؤرّخين الألمان أيّدوا نولته بينما المؤرّخون الأقل عمرا أيّدوا هابرماس.

عبارة هيلموت كول غدت لاحقا شعارا سياسيّا لما عُرف آنذاك بألمانيا بـ “التحوّل الروحي والأخلاقي Geistig-moralische Wende” وهو ما دفع المحافظين لتعزيز القيم المحافظة أكثر، ليكون ذلك سببا في تزايد مخاوف اليسار الليبرالي الجديد ومخاوف هابرماس، خاصة وأن كول أعلن بناء “متحف ألماني تاريخي Deutsches Historisches Museum” في القسم الغربي من برلين، وكانت اللجنة التأسيسية للمتحف برئاسة أحد روّاد سياسة الذاكرة الجمعية Geschichtspolitik المؤرخ  مايكل ستورمير الذي كان مستشارا لكول ولعب دورا كبيرا في تعزيز الهويّة الوطنية ولذلك وصفه هابرماس بأنّه “المُخطّط الأيديولوجي Ideologieplaner” للمحافظين.

عبّر المؤرّخ الألماني هانز مومسن Hans Mommsen المعروف بدراساته عن التاريخ الاجتماعي الألماني والدور الوظيفي للرايخ الثالث وهتلر وصاحب مصطلح “التطرّف التراكمي kumulativen Radikalisierung ” لوصف سياسة الإبادة النازية، عبّر عن مخاوفه من بناء المتحف: “محاولة لإنشاء هوية وطنية تاريخية مصطنعة من الأعلى“. المؤرّخون الثلاثة هانز مومسن وشقيقه التوأم فولفغانغ مومسن Wolfgang J. Mommsen ورفيق هابرماس المقرّب هانس أولريش فيلر Hans-Ulrich Wehler وقفوا بقوّة في صف هابرماس.

استندت أطروحات نولته على ما سمّاها “الرابطة السببيّة kausalen Nexus” بهدف إضفاء النسبية على المحرقة اليهودية ونزع التفرّد والخصوصية عنها، عبر الربط بين الستالينية والنازية مستعينا برواية “أرخبيل غولاغ” للروسيّ الحائز على نوبل الآداب 1970 ألكسندر سولجينيتسن Alexander Issajewitsch Solschenizyn عن معسكرات الاعتقال السوفياتية، ليطرح سؤألا على الألمان:

ألم يكُ أرخبيل غولاغ أكثر أصالة من أوشفيتز؟ هل تُثير أوشفيتز بأصوله ماضيا لا يُريد أن ينتهي؟”.

أندرياس هيلغروبر نشر مقالا بعنوان “نهاية مزدوجة. تفكّك الرايخ الألماني ونهاية اليهودية الأوروبية Zweierlei Untergang Die Zerschlagung des Deutschen Reiches und das Ende des europäischen Judentums“، ليتّهمه يورغن هابرماس بأنّه يتعاطف مع الألمان في الجبهة الشرقية بدلا عن التعاطف مع الضحايا في معسكرات الإبادة Vernichtungslagern، وليتهمه كذلك بتنقيح أو “تعديل revisionistische” التاريخ، أي تحريفه.

اتّهم المؤرّخون المحافظون في نقابة المؤرّخين الألمان هابرماس بالتدخّل في الشؤون البحثية للنقابة وأنّ ذلك يُسيء لسمعته العلمية، لكن هابرماس نال دعم كثير من مؤرّخي النقابة ومنهم يورغن كوكا Jürgen Kocka وهاينريش أوغست وينكلر Heinrich August Winkler وآخرين.

وصف هابرماس مساعي المؤرّخين المحافظين بالمحاولات المخزية لطرد العار عن الألمان، وبتحريف هذا الماضي لخلق وعي قومي جديد عبر التخلّص من الماضي المشين.

الترجمة الكاملة للمقال

لماذا يستحقُّ الفيلسوف الألماني يورغن هابرماس نصبا تذكاريّا؟

لقد منح وجها للمثقّف الألماني العام، وطبع ألمانيا الاتّحادية بحالة ذهنية لا مثيل لها. آن الأوان لنتذكّر حياة وعمل يورغن هابرماس Jürgen Habermas.

كتبه هانز أولريش غومبريخت Hans Ulrich Gumbrecht في 19   تشرين الأول عام 2020.

ليس في ألمانيا من اسمٍ أكاديميّ وقد نال هذا المقدار الهائل من الشهرة الكونية داخل أو خارج البرج العاجي للنصف الثاني من القرن الماضي كما هي حال يورغن هابرماس. سواء في طوكيو أو بيونس آيريس أو القدس، فهو في كلّ مكان، وبشكل بديهيّ، جزء من المعرفة المطلوبة حين قراءة الصفحات المميّزة عن الفن والأدب كما في المناقشات المرافقة للامتحانات. أمّا من يُصرّ على استكشاف ملفّه الشخصي أكثر، فعليه توقّع إجاباتٍ متعثّرة: نادرا ما يتجاوز هؤلاء الصورة النمطية لفيلسوف الجمهورية الفدرالية الحديثة ([19]) أو الماركسيّ الجديد الرائد دوليّا. أي أبعد من تلك الصيغ التي يطغى فيها الاحترام والتبجيل على حساب الشغف الفكري.

كيف يُمكن إذا تفسير أهمّية المثقّف الألماني الأشهر مع بلوغه الثانية والتسعين من العمر؟ هل يمكن أن تتلاشى هالته قريبا- كما لدى أسلافه من المشاهير الأوروبيين كـ نيكلاس لومان Niklas Luhmann ([20]) أو جاك دريدا Jacques Derrida ليغدو مرجعا أكاديميّا وحسب؟

الحـــياة Das Leben

لفهم أهمّيته، هنالك حاجة ملحّة لإلقاء نظرة على السيرة الذاتية ليورغن هابرماس الذي يُمثّل نموذجا يُحتذى به ليختصر تاريخ ألمانيا الحديث. وُلد هابرماس في عام 1929 (في ذات العام الذي وُلد فيه مارتن لوثر كينغ Martin Luther King وقبل عامٍ من ولادة هلموت كول Helmut Kohl) كابنٍ لأبٍ اشتراكيّ قوميّ (نازي) وبروتستانتيّ متزمّت ناجح، وعلاوة على ذلك عضوا في شبيبة هتلر- ولذلك يعتبر نفسه نتاجا لإعادة التأهيل الأمريكي Produkt der amerikanischen Reeducation بعد عام 1945.

درس في غوتينغن Göttingen وزيوريخ Zürich (كما هي الحال مع العديد من الشباب الألمان آنذاك)، وحصل على الدكتوراه في بون Bonn ثمّ حصل على شهادة التأهل للأستاذية رغم انجذابه للماركسية الجديدة لما عُرفت بمدرسة فرانكفورت – بسبب خصومةٍ مع رئيس المدرسة ماكس هوركهايمر Max Horkheimer– – في جامعة ماربورغ Marburg. إبّان سبعينيّات الجمهورية الألمانية الاتّحادية السابقة كان يرأس معهدا رائدا للأبحاث على ضفاف بحيرة شتارنبيرغير Starnberger See قبل أن يقفل عائدا إلى فرانكفورت في عام 1983، ليُزاحم ابن مدينة بيليفيلد   Bielefeld ومُنظّر نظرية الأنظمة نيكلاس لومان في منافسة أدّت لتنشيط المشهد الثقافي لبلاده بشكل غير اعتياديّ- ثمّ أصبح أخيرا في برلين العاصمة الاتّحادية المُعاد لمُّ شملها، حاملا لأعلى الجوائز الدوليّة ليرتقي ليُصبح رمزا لألمانيا ديمقراطيّة.

لكنّ السيرة الذاتية تُعيدنا فقط إلى حقيقة المجد الذي ناله هابرماس، وليس إلى العوامل التي رسّخت ذلك المجد. ما ساعد على ذلك باكورة إصداراته آنذاك وهو في الرابعة والعشرين عام 1953، بجريدة “فرانكفورت الغماين FAZ “. كانت تتعلّق ودون سابق إنذارٍ أو إخطار بمحاضرةٍ منشورة لـ مارتن هايدغر Martin Heidegger تعود لعام 1935، بـعنوان “عظمة الاشتراكية القومية (النازية) وحقيقتها الداخلية”.

لم يستجرّ ذلك الركون المريب للصمت “حيال الجريمة الفعلية المتمثّلة في القتل الممنهج لملايين البشر ” (ونادرا ما استُخدمت هذه الكلمات بشكل مباشر بغربي ألمانيا آنذاك) فقط غضب هابرماس الشابّ، بل أقرّ في ذات الوقت بإعجابه بفلسفة هايدغر وذلك التشويق الذي تثيره: “يبدو أنّ الوقت قد حان، للتفكير مع هايدغر ضدّ هايدغر“.

الفلسـفة

سرعان ما وصل ومسّ شغف البروفسور الشابّ يورغن هابرماس بالمشكلات العالقة المطروحة جيلا “ثوريّا” لاحقا من المؤازرين الأتباع. في نسختي العتيقة من “المعرفة والمصلحة Erkenntnis und Interesse” التي تعود لعام 1968 يورد من فوره الجملة الأولى من عددٍ لا يُحصى من الجمل المحمومة المؤكّدة على الجملة الجوهريّة المعبّرة عن روح تلك اللحظة: “تحليل الصلة بين المعرفة والمصلحة ينبغي عليه أن يُعزّز الادّعاء القائل بأنّ النقد الجذري radikale للمعرفة ممكنٌ فقط كنظرية اجتماعيّة”.

ما بدا للوهلة الأولى متكلّفا جدا وبتأثيرٍ من لغته الاصطلاحية المهنية jargonhaft ([21]) لم يكن في الواقع إلا إشارة لتنوّعٍ مرجعيّات النظر للمعرفة والآفاق المنبثقة منها في كلّ مكان ([22]). لكن مع هابرماس أصبحت هذه الكلمات كـ (راديكالي radikalen) أو (نقدي kritischen) – وكلاهما يحيلان على الدوام لمعنى سياسي- مشروعا نبيلا وفريدا، بدون قيود في علم الاجتماع آنذاك. يُضاف إلى ذلك نثرٌ سلسٌ هادئٌ في إيقاعه وتدفّقه، غير متشنّج يتطلّع إلى الأمام على الدوام، سرعان ما حاز على جائزة سيغموند فرويد Sigmund Freud.

في غضون ذلك اتّبع هابرماس تقليدا ألمانيّا جليلا وجديرا بالاحترام بإصراره المسبق على عدم استسهال الفصل بين عملٍ فكريٍّ ملتزمٍ سياسيا وعلم تجريبيّ موسومٍ بالـ (علموي szientistisch) ([23]). بدلا عن ذلك أراد أن يُنمّي ويرعى تصوّرا مختلفا لـ (العلم Wissenschaft) يُفترضُ به أن يتوسّط كتأمّلٍ ذاتي Selbstreflexion في بيئة “إعادة البناء Nach-Konstruktionen” للنصوص الكلاسيكيّة. ستتجلّى العواقب الفكرية لمثل هذا التعارض بين الالتزام والعلم المجرّد بوضوح في الـ 1100 صفحة من “نظرية الفعل التواصلي Theorie des kommunikativen Handelns” من فترة “شتارنبرغ Starnberg”، والذي يعتبره هابرماس عمله الأساسي حتى اليوم.

للحفاظ على مسافة من “التجريبيّة المجرّدة blosser Empirie” من جهة، ومن جهة أخرى لتحاشي الاتّهام بأنّه ينجذب لتصوّراتٍ معياريّة عن “العقلانية التواصلية kommunikativer Rationalität” وفق “مساراتٍ أصوليّة ملتوية fundamentalistischen Abwegen“، خاض في متاهة ماراثون بمسافة مائتي سنة لمراجعة التاريخ الفكري الثقافي الألماني والأمريكي وأحيانا الفرنسي أيضا. يتبعه قارئه بضمير حيّ وقّاد مع قصاصات ورقيّة لتدوين ملاحظاتٍ أكثر ذكاء ولكن نادرا ما ينتج جدالٌ عنها. وفي نهاية كلّ – بعد أن تكون كلّ السبل قد استنفذت – التفسيرات والتأويلات لمرحلة (ما بعد البناء) يعود الوعد بالعقلانية التواصلية ليمدّه بأملٍ حذر في تكوين “اتّساقٍ ميمون بين شظايا نظرية مختلفة”.

وبالمثل فقد كان للطوطولوجيا tautologisch ([24]) تأثيرٌ مشابه عام 1985 في “الخطاب الفلسفي للحداثة Der philosophische Diskurs der Moderne” حيث كان الدفاع عن التنوير والحداثة وفقا لهابرماس كـ “مشروعين لا يزالانٍ قيد الاستكمال noch zu vollendenden Projekten”([25]) ردّا على اعتراضاتٍ مختلفة طالت كذلك “إعادة البناء nach-konstruierten([26]). كذلك كتاب “أيضا قصّة للفلسفة Auch eine Geschichte der Philosophie” الذي نُشر في أوّل العام الماضي ([27]) يتخطّى حتى كتاب “نظرية الفعل التواصلي” في ضخامته بألف صفحة مذهلة، حيث من المفترض ([28]) أنّه يبرهن على الاستمرارية بين فلسفة منظّمة موجّهة لكلية الوجود البشري وبين اللاهوت الديني في فترة ما قبل التاريخ ([29]).

الموقف الشخصي

من الواضح جدا أنّ يورغن هابرماس كان سيختفي منذ زمنٍ طويل في ركنٍ مهمل من العالم الأكاديمي كمتقاعد بمنصبٍ فخري، لو أنّ تفاصيل حياته كانت قد انعكست في هذه النصوص. ليس فقط لأن مستويات الإبداع الدنيا تتراجع لتتلاشى في الماضي، بل أيضا وعلى الأرجح لأنّ نقطة التلاشي ([30]) لليسار الليبرالي تهيمن على المجتمع الألماني أكثر من نظيرتها الاشتراكية كرأي للأغلبية.

حقيقة أنّ هابرماس بقي حاضرا على المستوى الدولي وقبل ذلك على المستوى الوطني يجب أن تُعزى إلى المزاج السائد الذي دوّت فيه بواكير كتاباته بنجاح، ولا بدّ أنّ كلّ مستمعٍ من مستمعيه قد عانى أحيانا من صعوبةٍ في فهم بعض الكلمات المشوّهة بسبب تشوّه خلقي لديه ([31]). من جهة أخرى فإنّ هذا التخصّص الشخصي persönliche Spezialität (كما يقول هابرماس متهكّما من ذاته) قد عزّز لديه حضورا لا تضاهيه في أهمّيته كلّ تلك النظريات والمشاريع أو المواقف، الأمر الذي أكسبه قيما معيارية ([32]) تضاهي تلك القيم الاعتيادية، ما جعل منه المثقّف الأكثر حيويّة في الشأن الوطني العام.

لطالما تدخّل مرّة تلو أخرى- وبتأثير جليّ واضح- موضوعاتيا ليُثير سجالات مختلفة تماما. في عام 1986 ومع الوعيد بالتنصّل من إحياء الذاكرة الاشتراكية القومية (يقصد النازيّة) Nationalsozialismus، وفقا للعديد من المقارنات النمطية بين المؤرّخين المحافظين، أثار هابرماس بروح الحماس والنشاط في نصوصه الشبابية تلك مواجهة حادّة مكثّفة. شدّد على تفرّد الماضي الألماني وعلى المسؤولية عنه، ومواجهته كعلامة مشينة غير مريحة للحاضر السياسي. بدلا عن قمع معارضيه، ألزمهم بالتمايز فيما بينهم أكثر فأكثر.

قبل ذلك بعام واحد وفي كتابه “الخطاب الفلسفي للحداثة Der philosophische Diskurs der Moderne” كان قد امتنع عن الاعتراف بـ(تفكيكيّة جاك دريدا Jacques Derridas Dekonstruktion) بسبب ما ورد فيها من (طمس الاختلاف في النوع بين الفلسفة والأدب Einebnung des Gattungsunterschieds zwischen Philosophie und Literatur) ([33]) وكان السبب في ذلك على وجه التحديد -وبالتأكيد كان محقّا في ذلك – هو خشيته من أن ذلك قد يفرض عليه التحلّل من أيّ التزامٍ يُحيل إلى الواقع. غير أنّه ودون أن يتراجع عن معارضته نهائيّا، سعى لاحقا للتقرّب من دريدا في النقاشات الأوروبية الجارية باستمرار ([34]). أخيرا وفي عام 2004 خاض هابرماس، ذلك المفكّر (الغير ورِع دينيّا religiös unmusikalische) وفقا لشهادته نفسها، في نقاشٍ مع من غدا لاحقا البابا بنديكتوس السادس عشر Benedikt XVI، عن انفتاح التفكير العلماني على العبادات والصلوات الاجتماعية (الليتورجيا Liturgie([35]) واللّاهوت. هنا شرع في النظر إلى فترة ما قبل التاريخ كأحد أشكال الوعي الذاتي الفلسفي، الذي يقاوم الميل الأكاديمي للتخصّص.

ما تبقّى

هكذا تتّضح لنا الطروحات المركزية الثلاث في فكر يورغن هابرماس، والتي لم تُطبع في كتب بشكلها الاعتيادي المتعارف عليه، لكنّها امتلكت قوّة مثيرة – وهي تحديدا التأسيس الغير الأصولي للعقلانية التواصلية، مواجهة مشروع الحداثة مع التفكيكيّة (Dekonstruktion) ومجازفة المجتمع ما بعد العلماني (postsäkularen) في التقريب بين الفلسفة واللاهوت – التي أبانت عن طاقة دفعٍ قويّة، الأمر الذي غيّر نمط الحياة السياسية في ألمانيا وللأبد. لم يكن سهلا على هابرماس استعادة دور المثقّف العام، بعدما كان هذا الدور غائبا مفقودا في الماضي الألماني. لقد منح لهذا الدور كذلك شكلا جديدا محفّزا على خوض المواجهات.

بدلا عن التركيز على تحفيز المزاج الاجتماعي فلسفيّا وأدبيّا ([36]) ككبار كُتّاب الوجوديّة Existenzialismus في عام 1950، ساهم -وربما بخلاف توجّهاته السياسيّة الخاصّة – في تنامي آفاق التعقيدات الفكرية الناشئة. لقد غدا الفكر مصدرا لبدائل الفعل.

هذه الحياة العملية غير الأكاديميّة يمكن اعتبارها تطوّرا عمليّا للأطروحتين الرئيسيّتين في عمل هابرماس “التحوّل الهيكلي للمجال العام Strukturwandel der Öffentlichkeit” الذي نُشر في عام 1962 كأطروحة تأهيل للأستاذية. أوّلا كتأكيد على الحدس Intuition بأنّ المجال العام ومنذ القرن الثامن عشر لم يتطوّر مباشرة بالنوايا الخاصّة لأبطاله واستراتيجيّاتهم، بل بالانعطاف على سمات الوعي الذاتي الخاص – كالمزاج الشخصي لكاتبٍ ما. ثانيا، ومع التأكيد المتنامي على التنوّع والتعقيد الفكري، كإجابة عن سؤالٍ كان قد بقي منذ عام 1962 مفتوحا دون إجابة، كيف يمكن إذا للمجال العام أن ينجو بنفسه في عالم تكنولوجيا الإعلام وتتولّاه العولمة.

إنّ إعادة إحياء ألمانيا ديمقراطيا، باعتبارها تلك الأمّة السياسية التي كانت قد فشلت في هواجسها عن التوافق والتجانس، لتعود وتتعايش مع إيماءات النقاش الفكري، يجعل من إقامة نصبٍ تذكاريّ ليورغن هابرماس في برلين أمرا مهمّا عن استحقاق، ذلك أنّ فكره من الممكن أن يذوب متواريا في التيّار الرئيسي السائد حاليا في الجمهورية الاتّحادية، وإلّا فإنّه سيؤول للنسيان.

المصدر

* هانز أولريش غومبريخت Hans Ulrich Gumbrecht هو كاتب وأستاذ فخري للدراسات الأدبية في جامعة ستانفورد Stanford. نُشرت له مؤخّرا ترجمة من الاسبانية إلى الألمانية، وهي رواية “Handorakel” للكاتب الاسباني بالتاسار جراثيان Baltasar Gracián، إصدار (دار نشر Reclam، 2020).

إضافة من المترجم عن هذه الرواية: سبق وأن قام بترجمتها عام 1832 إلى الألمانية الفيلسوف الألماني آرثور شوبنهاور Arthur Schopenhauer، واستغرقت ترجمتها معه أربع سنوات.

أمّا كاتب المقال هانز أولريش غومبريخت فقد أصدر قبل فترة قصيرة كتابا يتجاوز ألف وخمسمائة صفحة عن الأدب الاسباني وتاريخه.

الهوامش والإحالات:

([1]). يورغن هابرماس، مستقبل الطبيعة الإنسانية. نحو نسالة ليبرالية، ترجمة إلى العربية جورج كتّوره ومراجعة أنطوان الهاشم، المكتبة الشرقية، الطبعة الأولى، بيروت 2006. ص 7.

([2]). نفس المرجع السابق ص 12.

([3]). تعبير إيغلتون مقتبس من كتابه “لماذا كان ماركس على حق” من إصدار دار الكتاب العربي ببيروت، ترجمة أ.د. غانم هنا، الصادر عام 2013، ص “23”.

([4]). ماكس هوركهايمر وثيودور أدورنو، جدل التنوير، ترجمة جورج كتّورة، دار الكتاب الجديد المتحدة، الطبعة الأولى 2006، ص “63”.

([5]). ماكس هوركهايمر، النظرية النقدية والنظرية التقليدية، ترجمة مصطفى الناوي، مراجعة مصطفى خياطي، عيون المقالات، مطبعة النجاح الجديدة، الطبعة الأولى، الدار البيضاء، المغرب 1990، ص (85).

(([6] . يمكن ترجمة Vergesellschaftung أيضا بالتأميم، لكن هنا تحديدا تشير إلى التنشئة الاجتماعية أو الإخضاع للنظام الاشتراكي كذلك، وقصد بها ماركس التنشئة الاجتماعية للإنتاج، أي تحويل فعل إنتاج وتوزيع السلع والخدمات من علاقة فردية إلى علاقة اجتماعية وجهود جماعية خاصة مع اضطّراد تطوّر الرأسمالية.

([7]). غريم غيلوتش، فالتر بنيامين: تراكيب نقدية، ترجمة مريم عيسى، مراجعة ثائر ديب، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات (سلسلة ترجمان)، الطبعة الأولى، بيروت، 2019، ص “90”.

([8]). يقابلها بالفرنسية bec-de-lièvre أو fente palatine، وبالإنكليزية Cleft lip أو cleft palate، وبالعربية يُوصف المصاب بها بأنّه أشرم الشفة. يمكن مشاهدة صورة واضحة عنها عبر هذا الرابط.

([9]). يمكن التعرّف على أهمية الجائزة عبر هذا الرابط.

([10]). تتعلّق نظرية حنّه أرندت عن الفعل بمفهوم الممارسة في السياسة ومسائل المعنى والهويّة، وميّزت فيه بين الفعل كممارسة وكصنعة أو صناعة، لتربط ذلك بمفهوم الديمقراطية التشاركية والحرية والتعدّدية، فالفعل محدّد للاختلاف بين البشر ومميّز له عن الحيوان، ويمثّل الفعل عندها تحقيقا لحياة عملية عبر الكدح والعمل وهو من أهم أنشطة البشر. الكدح هو ما يُبقي الإنسان على قيد الحياة، والعمل يتمثل في بناء عالم صالح للبشر، أما الفعل فيتمثّل في كشف هوية الفاعل لإثبات واقع العالم وتحقيق قدرتنا على الحرية وتمثّلنا لها. تقول حنّه أرنت: ” إن البداية الجديدة المتأصلة في الولادة يمكن استشعارها في العالم، ذلك لأن المولود الجديد قد امتلك قدرة على بدء شيء من جديد، وهو الفعل”.

([11]). هابرماس، مستقبل الطبيعة الإنسانية، ص “73”.

([12]).  هنري برغسون، التطوّر المبدع، السلسلة العربية لمجموعة الروائع الإنسانية -اليونسكو، ترجمة من الفرنسية إلى العربية جميل صليبا، اللجنة اللبنانية لترجمة الروائع، المكتبة الشرقية، بيروت، 1981، ص 126.

([13]). هذا الاقتباس ذُكر في مناسبة احتفال يورغن هابرماس بعيد ميلاده الثمانين، ويمكن قراءة النص الألماني الأصل الذي قمتُ بترجمته عبر هذا الرابط.

([14]). يمكن مراجعة كتاب هابرماس “الحداثة وخطابها السياسي” من ترجمة جورج تامر ومراجعة جورج كتورة وإصدار دار النهار ببيروت، الطبعة الأولى 2002، الصفحة 22.

([15]). ستيفان موللر دووم Stefan Müller-Doohm بروفسور وأستاذ فخري لعلم الاجتماع في جامعة أولدنبورغ Oldenburg، وأصدر كتابه “يورغن هابرماس. سيرة ذاتية Jürgen Habermas. Eine Biographie” في عام 2014 وهو من إصدار دار النشر Suhrkamp.

([16]). لفهم ما تعنيه كلمة progress بدقّة فهي تُشير وعلى وجه التحديد حين تقوم بتسطيب وتنصيب برنامج ما على الحاسوب أو تطبيقٍ ما على الموبايل إلى الجملة التي يذكرها البرنامج أو التطبيق إلى أن تنصيب وتسطيب البرنامج جار إلى أن ينتهي المخطط البياني التصاعدي لعملية التنصيب وتختفي بعد ذلك الجملة.

([17]). يمكن قراءة مقال نولته عبر هذا الرابط.

([18]). يمكن قراءة مقال هابرماس عبر هذا الرابط.

([19]). كان وزير الخارجية الألماني الأسبق يوشكا فيشر هو أول من أطلق على هابرماس وصف “فيلسوف الجمهورية الألمانية الجديدة”.

([20]).  نيكلاس لومان Niklas Luhmann أحد أشهر المثقّفين الألمان ومات في العام 1998 عن عمر 71 سنة بعد معاناة مع مرض اضطراب المناعة الذاتية واعتبر الألمان موته حدثا لا يُصدّق. اشتهر لومان بنظريته عن النظم الاجتماعية وكتابه “النظم الاجتماعية: مدخل لنظرية عامة Soziale Systeme: Grundriß einer allgemeinen Theorie”.

([21]). يستعمل كاتب المقال كلمة jargonhaft للإشارة إلى استخدام هابرماس للغة اشتقاقية اصطلاحية وأكاديمية نابعة من تخصّصه المهني، وكلمة Jargon تعني كذلك حسب ما ورد في المشروع الخاص بالمنظمة العربية للترجمة أنها لغة مضطّربة وغريبة ولكننّي أميل لكونها تعبّر عن اللغة الاصطلاحية الخاصة بكل مجال، وهي كذلك تدلّ على الرطانة في اللغة.

([22]). ربط يورغن هابرماس بين العقلانية وطريقة استخدام المعرفة، فذهب إلى اعتبار الطريقة التي تُستخدمُ بها المعرفة هي ما تُحدّد “معنى العقلانية den Sinn der Rationalität“، فالعقلانية لدى هابرماس هي ” كيفيّة استخدام الموضوعات الرشيدة والكلام للمعرفةwie sprach- und handlungsfähige Subjekte Wissen verwenden”.

([23]). العلموية Szientismus يمكن القول إنّ جذورها تعود إلى عصر النهضة الأوروبية والقرن السابع عشر وما عُرف بعصر الثورة العلمية وبشكل خاص اللغة العلمية الصارمة لكل من ديكارت وفرنسيس بيكون ثم وأخيرا كانط وما عُرف عن فلسفته الوضعية المبنية بناء على الفلسفة التجريبية لديفيد هيوم التي وضعت ثقتها بالحواسّ فقط كمعرفة صحيحة يعجز الغيب عن التعالي عليها. لكن هابرماس يجد العلموية حاملة لمعنى إيمان العلم بذاته وفهم العلم باعتباره تطابقا بين العلم والمعرفة.

أما الفرق بين العلم والعلموية فهو أنّ العلم نشاط استكشافي للعالم الطبيعي باستخدام أساليب دقيقة ومحدّدة تناسب تعقيد الكون ومكوّناته، وكل تخصّص علمي يستخدم ما يناسبه من وسائل وتقنيات مساعدة على استكشاف المجال الذي يدرسه. أما العلموية فتنطلق من محدودية قدرات البشر في الوصول لحقيقة مطلقة للكون ومغزاه وهي لذلك تلجأ لأسلوب التخمين في دراسة هذه الحقيقة وتركّز في جزئها الأوسع على سلوك البشر ومعتقداتهم.

تعرّضت العلموية لانتقادات شديدة محقّة في أغلبها، لكن أبرز من ساعد على إشاعة المصطلح في إطار نقده لها كان الاقتصادي النمساوي البريطاني الحائز على نوبل الاقتصاد عام 1974 فريدريش هايك فوصف العلموية بأنّها ” التقليد العبودي لمنهج ولغة العلوم التجريبية” باعتبارها نظرة شمولية غير مقبولة للعلم التجريبي. والعلموية تشير إلى التطرّف في المنهجية العلمية والإفراط في تطبيق العلم التجريبي وبالتالي هنالك استخدام غير صحيح للعلم مع الإصرار على جعل العلم التجريبي مصدرا موثوقا وحيدا للمعرفة. ولذلك فإنّ استخدام المصطلح من قبل منتقديه يشير أحيانا إلى نظرة ازدرائية له.

([24]). Tautologie الطوطولوجيا كلمة إغريقية الأصل وتعني “تكرار القول نفسه”. يعود المصطلح للقرن الثامن عشر بالاستعارة من الأصل الإغريقي ταυτολογία‎ وقد استخدمه لأول مرة لودفيغ فيتغنشتاين منذ العام 1921 عبر الإشارة إلى الروابط المنطقية التي تربط بين القضايا وهذه الروابط تشكّل أساس بناء القضايا لذلك يتم وصفها بالقضايا الذرية. شخصيا أفضّل ترجمتها بالبلاغة الأسلوبية المزدوجة لأنّها لا تشير لما يُعرف من سلبية في كلمة الحشو العربية خاصة وأنّها تبدو أقرب إلى تكرار يُراد به التعبير عن شيء مُراد لمرتين أو أكثر بهدف تعزيزه ويحافظ على صوابية الشكل رغم كلّ المتغيّرات وبالتالي فهو ضروري، وهنالك ما يُطلق عليه الحشو القبيح وهو Pleonasmus ويُفيد في معنى التطويل الذي لا فائدة منه ولا ضرورة له. كمثال عن الطوطولوجيا يمكن مثلا استخدام كلمتي دائما وابدا اللتين تحملان ذات المعنى أو استخدام كلمتي القلق والخوف، فالخوف منطقيا ينجم عن القلق. وكذلك الحال بالنسبة لكلمتي الحضور والوجود. مثال عن الحشو القبيح “العمل عمل، والخمر خمر”.

والتكرار يمسّ الاختصارات التي يُساء فهمها أو من كلمات أجنبية بالأساس.

كتطبيق عملي للحشو يمكن أخذ نظرية الانتقاء الطبيعي مثلا:

أولئك الذين ما زالوا على قيد الحياة كانوا الأكثر قابلية للتكيّف. ثم حين السؤال عمّن هم الأكثر قابلية للتكيّف تتم الإجابة بأنّهم الذين ما زالوا على قيد الحياة.

([25]). ويصحّ القول: “مشروعٌ لم يُنجز” والكاتب يقصد عنوان محاضرة هابرماس “الحداثة: مشروع لم يُنجز” التي قدّمها في العام 1980 بمناسبة استلامه لجائزة أدورنو.

([26]). في الألمانية تدلّ الكلمتان Nachkonstruktion وRekonstruktionعلى معنى إعادة البناء لغويّا وتقابلهما في الإنكليزية Reverse Engineering أي الهندسة العكسية الدالة أيضا على إعادة البناء، وإعادة البناء عادة ما تكون عملية افتراضية كأن تتمّ إعادة تمثيل جريمة مرتكبة مثلا أو إعادة بناء صورة افتراضية لأي حيوان منقرض كالديناصورات مثلا وهي تستند على قاعدة بيانات بهدف اكتشاف بناء نظام ما عبر تحليل بنيته. أما مع هابرماس فهذا المصطلح استخدمه بشكل متأخر وهو على ارتباط بمصطلح Selbstreflexion الوارد أيضا في هذا المقال والذي يفيد بمعنى التأمّل الذاتي أو التفكير الذاتي، وكلاهما متعلّقان هنا بعملية الإدراك وما يتعلّق بها بعوامل لضمان فهم المضمون والمحتوى وتوضيحه، أي أن الأمر في النهاية متعلّق بالمعرفة. وقد ذهب هيغل كما يشير هابرماس لاستبدال نظرية المعرفة بالتأمّل الذاتي الفينومينولوجي للروح، وتحدّث هابرماس عن الشروط التي تُتيح معرفة ممكنة لذاتٍ عارفة باعتبارنا لا نستطيع التيقّن من الحقيقة وصحّتها بالمعارف المكتسبة لهذه الذات، وبشكل آخر فهابرماس يقصد استقصاء قدرة هذه المعرفة نقديا وفق شروط معيّنة ليصل للقول بحتمية الشكّ

ومن ثمّ فإن هذا يُحيل بكل تأكيد إلى النظرية البنائية للفرنسي جان بياجيه المعروف مدى تأثر هابرماس بها والأخذ بها في الكتابة عبر الانتقال من نظرية إلى نظرية لإثبات صحة موضوع ما، وبياجيه ناقش في كتابه ” تطور التفكير” كيفية الموازنة في البنى المعرفية للوصول إلى فهم دقيق لهذا العالم، أي الأمر يتعلق بإعادة بناء عقلي ومعرفي.

([27]). نُشر كتاب هابرماس “أيضا قصة للفلسفة Auch eine Geschichte der Philosophie ” في أوائل عام 2019. في هذا الكتاب أظهر هابرماس ورغم بلوغه الحادية والتسعين روحا نقديّة كبيرة، وهو يتتبّعُ ظهور الشخصيّات الفكرية من أصحاب الفكر ما بعد الميتافيزيقي في العالم الغربي، عبر استخدام نوع خاص من علم الأنساب او الجينالوجيا Genealogie، لملاحقة نوع الخطاب المستخدم لدى هؤلاء المفكّرين عن المعرفة والإيمان، الأمر الذي أدّى فيما بعد للفصل بين الفلسفة والدين الذي قد تتمُّ علمنته كما يطلب هابرماس. ويُرجع هابرماس ذلك في كتابه إلى التقاليد الفكرية المنبثقة أثناء الإمبراطورية الرومانية، وفي أثناء ذلك يتابع هابرماس معظم التطوّرات التي حصلت في العلوم والقانون والسياسة.

(([28]. وكأنّ كاتب المقال يودّ أن يُخبرنا بإنّه لم يقرأ بعد كتاب يورغن هابرماس الأخير.

([29]). يُقال في دراسة تاريخ الفلسفة “الفلسفة ما قبل سقراط وما بعده” حيث وُصف سقراط بأنّه جلب الفلسفة من السماء إلى الأرض.

([30]). نقطة التلاشي تعرف كذلك بنقطة الفرار وهي النقطة أو المحور الشاقولي التي تنتهي إليها كافة الخطوط المتوازية في الواقع لدى إسقاطها في المنظور. وعلى أساس هذه النقطة ينمّ إنجاز اللوحات الفنية من نوع ثلاثي الأبعاد. يمكنك الوقوف مثلا في منتصف طريقٍ مستقيم لترى أنّ جانبي الطريق وكل الخطوط المرسومة عليه تلتقي في خطّ الأفق. وما يقصده الكاتب هنا هو أنّ الألمان يؤيّدون اليسار الليبرالي أكثر من الاشتراكيين اليسار أي أنهم يتلاقون في نقطة دعمهم وتأييدهم هذه.

([31]). يقصد كاتب المقال هنا ما سبق وأشرتُ إليه في المقدّمة المرفقة عن شفّة الأرنب التي كانت تجعل من كلامه غير واضح وغير مفهوم.

([32]). المقصود بهذه القيم هنا هي القيم المقيّمة للسلوك الشخصي لهابرماس وفعله، وكانت قيما عالية في إيجابيّتها.

([33]). في كتابه “الحداثة وخطابها السياسي” المشار إليه أعلاه يضع هابرماس جاك دريدا رفقة جورج باتاي وفوكو وما يسميّه روح نيتشه ضمن فئة وصفها بأنّها وبمساعدة موقف حداثي يعلّلون عدائيّة مرّة للحداثة معتبرا أنهم يكشفون عن ذاتية غير متمركزة متحررة من محدودية المعرفة.

([34]). يروي جاك دريدا ليشرح كيف كسر هابرماس ذلك الحاجز الجليدي بينهما في أثناء مشاركتهما معا في إحدى المؤتمرات بأمريكا قائلا: “اقترب هابرماس مني بابتسامة لطيفة، واقترح: إن لدينا نحن الاثنين ما نناقشه. وافقتُ بلا تردّد وقلتُ: دعنا لا ننتظر إلى أن يفوت الأوان”… من كتاب جيوفانا بورادوري “الفلسفة في زمن الإرهاب. حوارات مع يورغن هابرماس وجاك دريدا”، ترجمة وتقديم خلدون النبواني، مراجعة فايز الصيّاغ، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، الطبعة الأولى، بيروت 2013، ص “14”.

([35]). الليتورجيا Liturgie كلمة يونانية الأصل وتعني الخدمة الكنسية أو العبادات والصلوات الاجتماعية بمختلف أنواعها، يوافقها بالعربية مصطلح القداس الإلهي. ينظر إليها المؤمنون المسيحيون كطعامٍ يقدّمه الله لهم عبر الكنيسة، وبالتالي فهي أقرب إلى السرّ الإلهي الذي يحمل خلاصهم لأنها تستحضر كل تاريخ الخلاص وتدبير الله الأزلي الذي لا يُستكمل إلا بهذه الصلوات والطقوس.

لدى اليونانيين كانت الليتورجيا تعني الخدمة العامة أو خدمة الآلهة، وهي تتكون لغويا من كلمتين هما (لاؤس شعب) و(أرجون عمل) أي عمل شعبي. ومن الليتورجيا اشتُق مصطلح Leitourgik الذي يعني علم الليتورجيا وهو أحد أقسام علم اللاهوت ويدرس عموم العبادة المسيحية والليتورجيا الإلهية الخاصة.

([36]). يستعمل كاتب المقال هنا الفعل الألماني kondensieren الدالّ على التكثيف وهو هنا بمعنى التركيز على المحتوى الأساسي لطروحات يورغن هابرماس وجوهرها وهو ما تسامى هابرماس عليه بعكس الوجوديّين الذين ركّزوا على محتوى طروحاتهم، بحسب الكاتب في المقال المترجم.

 

نُشر في موفع “حكمة” والرابط إليه هنا.

 

قصّة صعود وأُفول الفيلسوف جاك دريدا

قصّة صعود وأُفول الفيلسوف جاك دريدا

عبد الحميد محمّد

 من التفكيكيّة déconstructionnisme ونقد الميتافيزيقيا إلى علم الكتابة والاختلاف la différence، عناوين دفعت الكثيرين للاعتراف بعدم قدرتهم على استيعاب الفيلسوف الفرنسي “جاك دريدا Jacques Derrida” الذي بجّله البعض لدرجة القداسة والعبادة، بينما اتّهمه البعض الآخر بالدّجل.

وبالفعل فدريدا مبعثُ قلقٍ في الفهم والترجمة وأقربُ للغزٍ ساحر.

فعل القراءة والتّفكيك

يُؤخذ على دريدا مغالاته في النزعة المعرفية المتشكّكة، لكنّ إتقان الفهم نفسه يُعدّ من ضرورات التعامل مع فكر دريدا الذي رأى أن سوء الفهم لطروحاته نابع من أفكارٍ مسبقة عن اللغة دون تمحيص فيما يطرحه، معترفا بأنّ القارئ قد يضطرّ لإعادة القراءة ليفهمه جيدا، في وقتِ لا يعتبر نفسه إلّا قارئا.

دريدا يبدو متفوّقا حتى على ذلك “القارئ النموذجي” الذي يكمن في كلّ نص وفقا للسوسيولوجي الإيطالي “أومبرتو إكو Umberto Eco“.

ومن حيث كونه قارئا، وقبل الحديث عن المقال المترجم سأحاول توضيح ما تعنيه التفكيكيّة باختصار وتكثيفِ شديدين.

دريدا يرى أنّ الهويّة تتمثّل في استخدامنا للغة وما يتركه هذا الاستخدام من أثر لاحق، فاللغة حاملة لعلامات إن نحن استخدمناها بشكل مختلف مخترقين ومتجاوزين لمعانيها ودلالاتها، فإنّنا نقوم بتغيير الواقع.

وحكما من ينطلق من هذا الفهم سيُصبح قارئا قبل كل شيء، بل لن يكون لديه ما يعدك به سوى فعل القراءة، ولذلك لا تحمل التفكيكية بديلا لما تنسفه وتقوّضه، بل من الصعب حتى عدّها منهجا.

كلّ ما وعدت به التفكيكية هو استنباط معنى مختلف من قراءة الإرث الفكري للغرب، ولذلك لجأ دريدا إلى قراءة هيدغر وماركس وهيغل وفرويد وجان جاك روسو، لزعزعة أيّ يقين لدى الغرب، محاولة منه للوصول لرؤية جديدة مختلفة للعالم عبر الدخول في صراع فكري عنيف مع هذه الأسماء وغيرها.

ودريدا قام بوضع رؤيته الجديدة بالفعل في كتابين أصدرهما عام 1967 وهما “في علم الكتابة De la grammatologie” و”الكتابة والاختلاف L’Écriture et la différence“.

دريدا انطلق من اعتبار أنّ للغة قوانينها الداخلية العميقة باعتبارها بوّابتنا على العالم في التعرّف على الأشياء وتسميتها، في وقت تمتاز فيه هذه اللغة بكونها شفّافة وفورية مع تعرّفنا عليها، أمّا قابليّتها للتحوّل فهو ما تكفّلت به الميتافيزيقيا ولا سيما ميتافيزيقيا الوجود الغربية، ليلفت انتباهنا إلى انعدام التماسك المنطقي في الفكر الغربي ولا سيما لدى كل من نيتشه وهيدغر.

أشار دريدا إلى هرم كبير جدا من الثنائيّات المتضادّة كالأبيض والأسود والجميل والقبيح والمذكّر والمؤنّث والداخل والخارج، وغيرها.

وما تعنيه كلّ كلمة ليس ثابتا منذ البداية، فالإشارة والعلامة ليس لها من مدلولِ ثابت مباشر توصله لنا، بل مدلول مفتوح من حيث المبدأ ومتغيّر في المعنى.

هذا المعنى المفتوح للغة جعل دريدا يذهب للقول إنّ للغة نظامها وهيكلها الذاتي الذي تعمل عبره ذاتيّا، وبناء على ذلك أعلن أنّ اللغة لا تمثّل العالم بقدر ما تمثّل علاقات القوّة.

والعلاقة بين هذه الأضداد في هرم الثنائيات الكبير لا يجب أن تبقى ثابتة من خلال الطرف الأقوى الذي يحاول ترسيخها بمزيد من التحايل والخداع بالاستفادة من واقعِ قاس واستثماره واستغلاله.

فطالما أنّ للغة نظامها المفتوح القابل للتغيير يمكننا القول بإمكانية تقويض علاقة القوّة هذه رأسا على عقب، كالعلاقة التي تعبّر عنها مثلا ثنائيّة المرأة والرجل التي تعبّر عن القوّة الذكورية.

وليس هنالك من علاقة لغويّة إلا وتكون قابلة للتغيير، لأنّها بالأساس علاقة غير طبيعيّة، والهويّة كهويّة الرجل أو المرأة مثلا ليست معطى ثابتا وطبيعيّا، بل تُبنى عبر استخدامنا المستمرّ المتواصل للرموز، وهنا بالضبط يبدأ فعل التفكيك، بتفكيك تلك الثنائيّات المتضادّة وتمزيقها من جذورها لأنّ هذه الجذور بالأساس افتراضية لا حقيقيّة، حتى وإن تمّ ترسيخ وجودها، وبالتالي يجب أن تنفتح على معانِ جديدة.

وهنا كذلك بالضبط تبدأ الصعوبة في فهم التفكيك، لأن منح معانِ جديدة يستوجب التفريق والفصل الدقيق بين كلّ كلمة وأخرى وكلّ مفهوم أو مصطلح وآخر، ولذلك تجد أن دريدا أفرط في استخدام المفردات التي تخصّ فعله التفكيكي، مثابرا على الاستمرار في التفسير والتأويل عبر استخدامها بشكل مختلف ومعنى مختلف.

وبمعنى آخر أكثر تقريبا فإنّ دريدا يُخبرنا أنّ معاناتنا كبشر لها أسباب لا يمكن تبرئة اللغة منها عبر استخدام ما تحمله من رموز وعلامات وإشارات، ولذلك يحمل فعل الكتابة لديه شيئا من القداسة لأنّ من شأنها أن تقوم بشيء من التجريد، ولذلك أيضا يشير لأهمية فعل الحضور بالصوت لأنّ هذا الصوت من شأنه أن يقلّل من مادّية اللغة التي تمتلك معاني ذاتية تخصّها قد تسبقنا إلى موضوعاتنا، فكلّ علامة لها معنى لا ندركه إلا لاحقا وفيما بعد، وهذا يخلق فجوة علينا ملؤها بدراسة هذه العلامة وتفكيكها وتفسيرها وتأويلها بفعلٍ مختلف، في وقت يستوجب أن نعلن فيه انفتاحنا على الآخر وعلى كلّ جديد، ولا يجب حتى على انتماءاتنا الضيّقة أن تحاصرنا مطلقا ولا يجب أن تصيغنا أو تحدّ من حرّيتنا.

ألم يسبق لـ “سليل بيت اللغة القديم” الصحفي والناقد النمساوي الساخر “كارل كراوس Karl Kraus” أن حذّرنا من أنّ نهاية الجنس البشري تكمن في سوء استخدام اللغة؟ وكأنّ هنالك من يتّخذ من اللغة أدوات مطبخ ينتظر منها أن تقوم بفعل ما يريده وما يبتغيه؟

دريدا لا يقوم بفعل تفكيكيّ فقط بل بعملية خلق مستمرّة دون أن يطرح أيّ بديل، وفي ذلك تكمن قوّته لأنّ زعزعة الاستقرار تتطلّب التفكير بشيء مختلف عمّا يطرحه طرفا أيّة ثنائية متناقضة، وسلاحه الثورة من داخل النصوص وانتهاك المقدّس فيها.

كان أهم ما قام به دريدا مواجهة المركزية الأوربية والفلسفة الغربية من داخلها، ولذلك قال “بول دو مان Paul de Man” أحد أعمدة المدرسة التفكيكيّة في أمريكا: “لا يمكنك تفكيك إلا ما تحب“.

عن المقال المترجم

كان عنوان المقال الأصلي “في الثمانينيّات بُجّل كطقس شعائري، واليوم أقرب للنسيان: قصّة صعود وأُفول الفيلسوف جاك دريدا“، وهو كما يبدو عنوانٌ طويل، وكتبه الألماني الأمريكي “هانس أولريش غومبريخت Hans Ulrich Gumbrecht” الفيلسوف والمؤرّخ والناقد الأدبي، عضو الجمعية الأمريكية للعلوم والفنون، والمدرّس في جامعة ستانفورد بأمريكا وعدّة جامعات ألمانيّة.

سنعرف أهمّية المقال، إن عرفنا أنّ فلسفة دريدا قد لقيت صدى ورواجا في أمريكا أكثر من أيّ مكان آخر، رغم أنّ صاحبه يتمايز بالافتراق عن ذلك الترحيب الواسع بفلسفة دريدا في أمريكا، خاصّة وأنّه يحمل الجنسيتين الألمانية والأمريكية.

والمقال يسرد قصّة بروز دريدا وشهرته ثمّ غيابه كمنهج فلسفي، وأتى كاحتفاء بذكرى ميلاده التسعين.

التّفكيك الأمريكي

كان دريدا معروفا في أمريكا أكثر من فرنسا نفسها، فنظّم وقته في السنوات العشر الأخيرة من عمره، ليتنقّل بين باريس وأمريكا التي تشكّلت فيها مدرسة تحمل اسم “الدريدائيين“، بل إنّ هنالك من قال بـ “التفكيك الأمريكي“، كالناقد البريطاني “كريستوفر نوريس Christopher Norris“.

أخضع دريدا تأسيس أمريكا نفسها للتفكيك، بعدما تمّت دعوته للمشاركة في الاحتفال بالذكرى المئوية الثانية للاستقلال الأمريكي، بجامعة فرجينيا، ليضع شرعية من أعلنوا استقلال أمريكا ككيان قوميّ سياسي ومن أعلنوا عن أنفسهم بتوقيعاتهم على الإعلان كسلطة مرجعية، أمام المساءلة واختبار الشرعية.

هذا كان جزءا مما هدف إليه دريدا بتجاوز المركزية الغربية وتعريضها للاختلاف أو تقويض ما سمّاه “الوهم السائد في ميتافيزيقيا الغرب” وعدم الاعتراف بوجود معرفة يقينية تعتمد الحواس عبر القول بثنائية الشكّ واليقين واتّباع المنهج العلمي.

ومع أنّه لا يوجد من أثّر على النقّاد الأمريكيين بعد مرحلة البنيوية الفرنسية أكثر مما أثّر دريدا، فقد وُصف أنصار التفكيكية في أمريكا بجمع المهلهلين، لكن يبقى بول دو مان أحد أعمدة التفكيكيّة في أمريكا، بل إنّ هنالك من قال إنّه لولا هذا الأخير لما انتشرت التفكيكية، لكن هذا الأخير وكذلك دريدا اتُّهما في أمريكا بتبرير أفعال النازيّة بألمانيا للعفو عنها.

عُرفت تلك المدرسة في أمريكا باسم مدرسة جامعة بيل التي زارها دريدا أواخر ثمانينيات القرن العشرين ليلتقي ببول دومان صاحب المدرسة المغايرة في منهجيّتها لمدرسة دريدا الأساسية، لتثري تفكيكيّة دريدا ثراء ما بعده ثراء.

استخدمت مدرسة بيل طرائق معقّدة في التحليل والعمل التفكيكي في مقاربة النصوص المعقّدة. ولعلّ الأمر الذي ساعد على تقارب دريدا وبول دو مان هو نزعتهما لعدم الفصل بين الفلسفة والأدب، فدو مان كان ميّالا للأدب ودريدا عالج كثيرا من النصوص الأدبية مستخدما فلسفته، كنصوص الإسباني بلانشو مثلا. والأدب عموما يبقى الحقل الأهم لفهم آليات اللغة، ودريدا نظر للأدب كـ “حركة تفكيك ذاتية للنص“.

وفي أمريكا دخل “أدوارد سعيد” في جدال طويل مع التفكيكيّين وهو يحاول منح النص بعدا سياسيّا، لتلجأ جامعة بيل إلى إصدار أعمال دريدا كنصوص صرفة فقط.

لا يجب أن ننسى دور الإنكليزية الأمريكية من أصول بنغالية، المدرّسة في جامعة هوبكنز الأمريكية وصديقة دريدا “غاياتري شاكرافورتي سبيفاك Gayatri Chakravorty Spivak” ولا سيما تقديمها لكتاب جاك دريدا وأحد أهمّ النصوص التأسيسية للتفكيكيّة الذي ينتقد فيه المركزية الغربية، وهو كتاب “في علم الكتابة” الذي أُعيد نشره من قبل جامعة هوبكنز وأثير نقاشٌ طويل عنه.

ودور سبيفاك يؤكّد أنّ التفكيكية إنّما كانت سلاحا للحركات النسوية أيضا وزادا للدراسات ما بعد الكولونيالية والدراسات المتعلّقة بالذاكرة، ولعلّ المقال الأشهر لسبيفاك هو مقالها”هل يستطيع التابع أن يتكلم؟“، الذي يشكّل جزءا مما تنشغل به سبيفاك حول مفهوم ومقولة الإخضاع كعمل مركزيّ لها.

وصفت سبيفاك تلميذة بول دومان نقد دريدا للفلسفة الغربية بأنّه نقدٌ تقاربيٌّ لا تفارقيّ، عبر الحديث من داخلها، وبالتالي فهو هدمٌ وبناءٌ في آن، وهو ما يمثّله جوهر التفكيكيّة.

ومن وجوه التفكيك في أمريكا يمكن ذكر الماركسي الأمريكي “فريدريك جيمسون Fredric Jameson” الذي يبدو وكأنّه حاول المصالحة بين التفكيكيّة والماركسية خاصة وأنّه كان صديقا لبول دو مان.

أيضا لا بد من ذكر “جاي هيليز ميلر J. Hillis Miller” الذي ورغم كونه في عداد التفكيكيين بأمريكا انتقد مبالغة دريدا في فعل القراءة الدقيقة وهو يعالج رواية عوليس لجيمس جويس، لدرجة أنّه خصّص أكثر من ثمانين صفحة لكلمة “نعم”، ليصف هيلز ميلر ذلك بالقول: “انفجار مغرق ومفرط“.

فلسفة دريدا جوبهت في أوربا بمعارضة شديدة، لدرجة أنّ جامعة كامبردج البريطانيّة، ممثّلة بهيئة تدريسها، خرجت في مظاهرة احتجاجية على منح رئاسة الجامعة دكتوراه فخرية لدريدا.

وسواء أعجبتنا فلسفة دريدا أم لم تعجبنا، فالوصف الذي وصفه به الرئيس الفرنسي جاك شيراك، من شأنه أن يدفع معارضيه ومؤيّديه للاتّفاق على نقطة التقاء. وصف شيراك دريدا، معلنا وفاته بمرض السرطان، في 8 تشرين الأول/أكتوبر 2004، بأنّه كان يلامس “جذور الإنسان التفكيرية في حركة حرة“.

دريدا والماركسيّة

عارض الماركسيون دريدا والتفكيكيّة آخذين على التفكيك انشغاله بالنصّ بشكلٍ هاجسي مفرط، مع تجاهل الوقائع السياسيّة.

تمّ القبض على دريدا في أثناء زيارته لتشيكوسلوفاكيا، قبل انهيار العالم الاشتراكي وحلف وارسو، بتهمة الإتجار بالمخدّرات، ليُقال إن دريدا عانى من الإرهاب الماركسي خاصة وأنّه أعلن رفضه بوضوح لانتهاك حقوق الإنسان وسياسة الحزب الواحد وعبادة الشخص، في وقت رفض الهيمنة الأمريكية على العالم.

صحيفة “ليبراسيون” المحسوبة على اليسار الفرنسي نشرت مقالا اتّهمت فيه دريدا بمحاباة النازية بسبب دراساته عن هايدغر المتّهم بدعم النازية، وادّعت أن لا فائدة تُرجى من قراءة دريدا، لتصفه أخيرا بـ “الرجعي اللاعقلاني المعادي للأنوار والمحافظ الجديد“.

أصدر دريدا كتابا عن كارل ماركس هو “أطياف ماركس Spectres de Marx” كآخر نتاج فكريّ له قبل وفاته، ورغم كل الانتقادات الموجّهة لهذا الكتاب فقد اعتبر إحياء للنظرية الماركسية.

واجه دريدا الماركسيّة ونموذجها السوفياتي، الفائض بالأيديولوجيا وادّعاءات الحقيقة ومزاعم احتكار الكمال، رغم حرصه المستمرّ على وصف نفسه باليساري في فكره.

والنموذج السوفياتي المدّعي للكمال ينطبق عليه وصف دريدا للميتافيزيقيا عبر تراتبيات القيم والفروقات الوجودية الأخلاقية المتمثّلة في التعارضات، كالسوي والشاذ أو كالإيجابي والسلبي أو المثالي وغير المثالي. وبالطبع فالصفة الإيجابية مثّلها دوما هذا النموذج المنحلّ، وفقا لكلّ ادّعاءاته.

العمارة التفكيكيّة

مع دريدا تُذكر دوما التفكيكية، كمنهج قادر على تقويض الحقيقة من حيث كونها مفهوما ميتافيزيقيّا، يفتح آفاقا واسعة لتأويل النصوص.

لكنّ التفكيكيّة تعدّت النصوص لتصل حتى إلى العمارة، التي تجاوزت الطراز الإنشائي التقليدي السائد منذ ثلاثينيّات القرن العشرين، للتعبير عن الغليان والثورة، حاملة دلالاتٍ سيكولوجيّة، يعبّر فيه الشكل عن الجوهر والأصالة معا، في بوتقة معماريّة حاملة قيمةٍ تعبيرية وفلسفة قائمة على الفصل بين الفنون في تشييدها، كالفصل بين الرسم والنحت مثلا.

العمارة التفكيكيّة نسفت الأسس الهندسية الإقليدية، مع تأكيدٍ في ذات الوقت على أنّها تعبّر عن الهدم والبناء في محاكاةٍ للفطرة الطبيعية التي يحملها الطفل وهو يفكّك ألعابه ثم يعيد تركيبها من جديد.

المعماري الأمريكي الأشهر، لــويس ســوليفان Louis Sullivan، اعتبر وظيفة المبنى سببا في وجوده، والشكل يُعبّر عن وظيفته، وهو موجود بسببه، وهذه الوظيفة تلعب الدور الحاسم في الشكل المناسب.

فالعمارة التفكيكية أتت كظاهرة ثقافية لتعبّر عن أسلوب ثقافي وفلسفي في آن. والعراقية الراحلة “زها حديد” اتّبعت في كثير من مشاريعها هذا النوع من العمارة، إضافة لاستفادتها من السريالية طبعا.

دريدا والحداثة والفلسفة الظاهراتيّة

لم تظهر التفكيكيّة إلا كإحدى تجليّات الحداثة وما بعدها، لتُخضع المسلّمات للشكّ والنقض، كما حال الأبستمولوجيا واللغة والميتافيزيقا وحتّى اللاهوت.

سبق ظهورها ما وصفه اللّاهوتي وعالم الاجتماع الألماني إرنست ترولتش Ernst Troeltsch (1865-1923) بأنّ التاريخ نفسه غدا إشكالا، حتّى نال الشكّ من ” كل المعايير والقيم والمثل الراسخة للوجود الإنساني “.

دخل دريدا في مواجهة مع البنيويّة وليفي شتراوس وفوكو، مفنّدا طروحاتهما وطروحات البنيوية، وقبلهما دخل في مجابهة مع كانط ومذهبه عن الحرية.

كان لـ “أدموند هوسرل Edmund Husserl” معلّم هايدغر ومنهجه الفينومينولـوجي والفلسفة الظاهراتية وطريقة تناولها للمعرفة، ربّما الدور الأكبر في بروز التفكيكيّة، فـ “كل فلسفة تكيّف نفسها، وتعبّر عن ذاتها، وفقا لمنهج فينومينولوجي.” وفقا للناقد الأمريكي هربرت شنايدر.

كان هوسرل قد عرّف الفينومينولوجيا، معتبرا أنّها تقوم بدراسة الوعي، منطلقا من اعتبار الأشياء ظواهر محايثة للوعي والخبرة. فالواقعة الأوّلية المعطاة للوعي والمدركة حدسا، تعني أنّ هنالك قصديّة في الموضوع لحظة الإدراك، واللحظة تلك تشكّل إدراكا ميتافيزيقيّا من قبل الذات التي تعيش مدركاتها، وهي تؤمن بقدرتها على التأمّل انطلاقا مما يُحيط بها.

والأمر هنا لا علاقة له بالاستقراء أو الاستدلال، بل هو محاولة للوصول لماهية الشيء بشكل عياني فردي، فهنالك مادّة معطاة وعليه إضفاء معنى عليها، وهنا قد يُعلن الخلق والإبداع الفنّي عن نفسه.

كان هوسرل يرى التجربة مصدرا للمعرفة وبإمكانها أن توصلنا لمعرفة ماهية الموضوع، وماهيات الظواهر تتجلّى في الوعي.

لكن دريدا سيرفض اختزال الفكر كلّه في لحظة كهذه، من لحظات الفهم الذاتي الحضور، وسيرفض أيضا اعتبار علم الهندسة حقيقة قبلية راسخة كما اعتبرها هوسرل.

نظر دريدا لهوسرل كوريث أخير صارم لما سمّاه التعارضات الكبرى التي أسّست تاريخ الفكر الغربي، داعيا إلى تجاوز الفلسفة الظاهراتية ونسف الفلسفة الغربية القائمة على الذات منذ زمن ديكارت، ليكون العقل مرتكزها الأساس كضامن لأيّة فلسفة حقيقيّة.

نشر دريدا كتابا عن فلسفة هوسرل، وحمل عنوان ” مدخل الى أصل هندسة هوسرل Introduction (et traduction) à L’origine de la géométrie de Edmund Husserl “.

وكتاب ” الصوت والظاهرة La Voix et le Phénomène “، بمجمله عن هوسرل ونظرية المعنى لديه.

دريدا والقطيعة مع الميتافيزيقيا

أعلن كلّ من نيتشه وهايدغر نعي الميتافيزيقيا نعوة غير صريحة، ليُطلق دريدا على هذا الأخير (هايدغر) لقب ” الميتافيزيقيّ الأخير “، ومُعلنا انتهاء الفلسفة التقليديّة. نيتشه أكّد على أنّ للنقد هدفا أساسيا يتمثّل في استكمال تجاوز الميتافيزيقا.

التفكيكيّة كنسقٍ قائم على المفارقة مع الغيبيّات، بدت وكأنّها ميتافيزيقيا جديدة، عصيّة على الفهم سوى لدى المختصّين.

آيريس مردوك ‏Iris Murdoch“، ‏الكاتبة والفيلسوفة والناقدة الأيرلندية التي تُعيد فكرة كون اللغة خطأ جوهريا إلى أفلاطون، ولها كتاب يحمل عنوان “الميتافيزيقيا مرشدا إلى الأخلاق“، ترى أنّ المذهب الصوري المتطرّف قد يغدو نظرية ميتافيزيقيّة، بتنكّره للتمييز الضروري بين الذات والعالم، وبين استخدامات اللغة الأكثر توظيفا للإشارة.

ذكرت مردوك أنّ أحد مؤيّدي التفكيكيّة اعترف بأنّ التفكيكيّة “نـوع جديـد مـن الميتافيزيقـيا لكن ليس كمـا فـي الجـدل التقليـدي فـي حـوارات أفلاطـون وأرسـطو“.

اعتُبرت التفكيكيّة متشابهة مع الميتافيزيقـا “فـي اسـتخدامها التركيبـات الاسـتعارية، وتكـوين العبـارات“.

تحرص التفكيكيّة على فكّ الارتباط بين اللغة وكلّ ما خارجها، لاستكشاف ما يُظهره النصّ وما يُخفيه، فتقوم بدراستين للنص، دراسة تقليديّة لمعانيه، ثم دراسة تالية تنسف مخرجات الدراسة الأولى، فتغدو تفكيكا وتقويضا.

تغدو التفكيكيّة أكثر صعوبة على الاستيعاب مع كثرة المصطلحات، كمصطلحات الحضور والغياب والاختلاف والأثر والتشتيت والمدلول المتعالي والإرجاء، وكلّها مغايرة للسائد، لا تستكين للاستقرار، تتقلّب بين معنى وآخر، لا نهتدي معها لمعنى نهائيّ حاسم.

شكّلت التفكيكيّة أهم حركة بعد البنيوية، ومازالت تخضع للتفسير والتأويل حتى يومنا هذا، كحقل معرفي بلاغي يتمركز حول الكتابة، ملغوما بالكثير من العقبات، وكأنّ دريدا حشرنا فيما لا يمكننا الفكاك منه، نعجز عن إشباع فضولنا المعرفي، فهي تعمل على نسف كلّ منهج أو نموذج، دون تعويضنا ببديل.

تركنا دريدا تائهين في البحث عن معنى، مشغولين بسحر هنا وسرٍّ متوارٍ هناك. ففلسفة دريدا مهووسة بزعزعة اليقين الفلسفي، واللعب المستمرّ مع العلامات.

حين توفّي دريدا، نشرت جريدة النيويورك تايمز مقالا في رثائه، مرفقا بمقال آخر حمل عنوان ” تفكيك أبو مصعب الزرقاوي “، وهو الأمر الذي نفى أدوار سعيد أن يكون مصادفة، بمعنى أنّه غاب ليحضر بمنهجه.

الترجمة الكاملة للمقال عن جاك دريدا

“في الثمانينيّات بُجّل كطقس شعائري، واليوم أقرب للنسيان: قصّة صعود وأُفول الفيلسوف جاك دريدا

هانس أولريش غومبريخت Hans Ulrich Gumbrecht

التفكيكية“، هكذا سمّى فكره. عُدّ هذا المصطلح ولمدّة طويلة من المفردات الفضفاضة في الاستخدام اليومي. لكنّ كتابات جاك دريدا تبدو اليوم، وكأنها إيماءاتٌ ساخرة من زمن مضى بعيداً. هذا تذكير بمناسبة يوم ميلاده التسعين.

نظرة صارمة، كأنها تتنبأ للأمام: هكذا عُرف جاك دريدا من خلال كتبه ومقالاته. لكن فهم الموضوع على هذا النحو المغلوط يفشل تماماً في وصف الفيلسوف.

حين توفّي جاك دريدا Jacques Derrida في أكتوبر من عام 2004، كان أسلوب الكتابة الفلسفية الذي ابتدعه قد بلغ مداه من السحر. حدّة ردود الفعل على هذا الموت، كانت قد تركت توقّعاتٍ بأن مرحلة ما قد وصلت لنهايتها.

في “النيويورك تايمز New York Times” التي نشرت في الوقت ذاته “نعوتين”، تمّ رفع دريدا ليوصف بـ “أعظم فلاسفة القرن العشرين“.

ونظّمت الجامعات الأمريكية جلساتٍ خاصّة، لتُتيح لمعجبي دريدا توديع بطلهم، في وداعٍ رسميّ. شكّل ذلك استمرارا لموقفٍ شبه ديني كان قد أُسبغ حتى ذلك الحين على أقلّيةٌ من الكتّاب (ككارل ماركس أو سيغموند فرويد)، وفيه تبلور سؤال القارئ: “ما الذي أراد دريدا أن يخبرنا به؟“.

وكأنّ كلّ كلمة من لدن دريدا مثلها مثل كلمة إله توحيديّ، يتمّ توجيهها باستمرار إلى جميع الناس (بمن فيهم الأجيال القادمة).

بالطبع، لم يكن بإمكان تلك الإشارات التصالحيّة تحويل أو وقف مسار تدهور التفكيكيّة الذي كان يتفاقم أكثر فأكثر، بشكلٍ واضح آنذاك. وحتى وقتٍ قريب، حافظت الدوائر المرموقة سياسيّا على ما درجت عليه من طقوس، بالحديث عن كتّابها، بمزيدٍ من التباهي والإجلال.

ربما لأنهم ظلوا (الكتاب) مرتبطين في أذهانهم بالقدرة على منحهم فرصة إسكات معارضيهم الفكريين، ببضع كلماتٍ رنّانة، لكنّها صعبة على الفهم، والحصول على مناعة ضد أي هجوم في نفس الوقت.

ولكن في الآونة الأخيرة، نشأ انطباعٌ تنامى بسرعة، ليصل لحدّه الأقصى من الحدّية والتطرّف حسب النظرية الأدبية في الاستقبال واستجابة القارئ في تحليله لنماذج الاتّصال”der Rezeptionsgeschichte”، يتعلّق بقناعة راسخة بأن لا منهجا فلسفياً يملك في زمن الكورونا قيمة أقل من التفكيكية شبه المقدسة سابقاً. ما الذي يكمن وراء صعود وهبوط هذه الحركة الفريدة؟

النّجاح المبكّر: العوامل

فجأة وبضربة واحدة أصبح دريدا مشهورا في العالم، مع نشره ثلاثة كتب في العام 1967 الذي شكّل “عام المعجزة Wunderjahr” على المستوى الشخصي له. وكان قد سبق له أن أظهر نبوغه الإبداعي في لقاء مخصّص للمفكرين الفرنسيين الكبار، عُقد في جامعة جونز هوبكينز Johns Hopkins University، ثم ـ ومع نشره لمجموعة من المقالات ـ سرعان ما لاقى نقده للنموذج المعرفي للبنيوية Paradigma des Strukturalismus، السائدة آنذاك استحسانا وتوصية داخل الأوساط الأكاديميّة، ليُنظر إليه ليس كعالم شاب مغمور، بل كعالم أكاديمي ذي مستقبل واعد.

كما تبيّن أن ذلك “التشتيت” أو “التفكيكيّة” التي استهدفت البنى التقليدية في ادّعائها النمطي للموضوعية قابلة للسحب أيضاً على الماركسية الأكثر ضراوة آنذاك دون أن يتعرض لها دريدا بالنقد، فكانت اللبنة الأولى للنجاح.

ثانيا، طوّر دريدا أطروحته المعروفة بـ “نقد الميتافيزيقا Metaphysik-Kritik ” القائمة على التشكّك في كلّ عقائد تفسير العالم الموضوعية، انطلاقا من مناقشة منهج وأطروحة “أدموند هوسرل” عن تطوّر الأشكال الأوّلية العامة للوعي البشري، عبر الملاحظة الذاتية.

هذه العملية طوّرها دريدا في دراسته “الصوت والظاهرة” كمقاربة ميكروسكوبية دقيقة لهوسرل، تستند إلى النصوص الأفلاطونية، وفي المقام الأوّل التأمّلات الانعكاسيّة الأولية المكتوبة عن الوعي بالعالم التي توسم بالمحاورات.

في هذه المرحلة الشفاهية تتوهّم الحواس بقدرتها ـ كوجود موضوعي ـ على الإنصات للذات، وبالتالي ادّعاء فهم وإدراك الموضوع ككل أو حتى كشخص وذات، وهو ما يدخل في إطار التقاليد الأوروبية عن إدراك العالم وفهمه*.

كان ينبغي لتحوّل دريدا من الاهتمام بالخطاب الشفوي المنطوق إلى القراءة والكتابة أن يشكّل مدخلا جديدا لفهم العالم، لم يكن متاحا ككلّ أبدا بل شظايا منه فقط، هي بدورها في نهاية المطاف عصيّة على الفهم.

حاجج دريدا محاولا أن يبيّن أنّ صوابية (اليقين) التفكير والتأمّل الذاتي الانعكاسي تدوم لأجزاء من الثانية فقط كل مرّة، بدءا من لحظة القراءة (لا يخلق منهجا متكاملا على الإطلاق) ـ ولذلك ليس لها عواقب على المعرفة. جميع الفروقات الواضحة بين المصطلحات وكذلك الفرضيات التي تقول بإمكانية استيعاب العالم وإدراكه عبر اللغة مبنيّة على تشوّهاتٍ في عناصر منهجية مؤثّرة، ولذلك يجب رفضها باعتبارها ساذجة.

في نظرة كلّية شاملة للاعتراضات التاريخية والمنهجيّة التي يمكن تأمّلها ضدّ نقد دريدا للميتافيزيقا أظهرت عدم رأفةٍ به. ومع ذلك لا يتعلّق الأمر بموهبته، التي أظهرها بالأخصّ في كتابه “دراسة أنظمة الكتابة Grammatologie” الأطول والأكثر غموضا، عالج فيه الحدس الفلسفيّ ذاته في خطاب أدبيّ جذّاب، ما خلق محاولات لا حصر لها على مدى عقود لتقليده. هذا الخطاب لاقى قبولا ورواجا فكريا، خاصّة في الولايات المتّحدة، لتُقرأ التفكيكيّة في سنوات ما بعد عام 1968، كحدث.

أوّلا وقبل كلّ شيء، فإنّ دراسة دريدا للنصوص عن قرب في عمله أشبه ـ (للمرء الحق في الإشارة إلى أنّ مقالاته تذكّر سريعا بالتعليقات) بثقافة ” القراءة الدقيقة “**، تلك التي سادت كمعيار دلالي للعلوم الإنسانية الأمريكية منذ أواخر عشرينيات القرن العشرين.

لكن التفكيكيّة المبكّرة في الدول الغربية، صادفت أوّلا جيلا من المثقّفين، الذين أُصيبوا بخيبة أملٍ عميقة من خطوات الهيمنة السياسية للاتّحاد السوفياتي، للتصدّي للخطوة الصعبة المتمثّلة في الافتراق عن الماركسية بحماسِ أكثر من ذي قبل، بعدما كانت نموذجا بديلا ملهما. وفّر لهم فكر دريدا فرصة لاستكمال القطع الصريح مع الماركسيّة، دونما حرج في أخذ مسافة منها من جديد. وأعطاهم في الوقت ذاته مهمّة وجودية جديدة، مع نبذ الأوهام الساذجة الكامنة في “الميتافيزيقا“.

ضعف دريدا: عدم القدرة على التمييز

مما لا شكّ فيه، أنّ التفكيكيّة وعموم الحركات الفكرية التي ساهمت في نقد الميتافيزيقا، في ذلك الوقت، كـ ” البراغماتيّة ” لريتشارد رورتي Richard Rorty أو “نظرية الأنظمة” لـنيكلاس لوهمان Niklas Luhmann، تتشارك في مشهد الرضا الذاتي كمدارس فلسفيّة راسخة أدهشت بشدّة.

ومع ذلك فقد كان واضحا من البداية أنّها صالحة لمدّة محدّدة فقط، لما تمّ من تضخيم لدورها وتطبيقها على كلّ شيء.

لقد ثبُت على المدى الطويل أنّ التهديد الحاسم لهيبة دريدا لا يتعلّق بأيّ حالٍ من الأحوال بنقصٍ في الكفاءة، بل بفطرته للتودّد لإسقاطات أولئك القرّاء الذين كانوا قد تحوّلوا من معجبين إلى مريدين مؤمنين، بشكلِ مبالغِ فيه جدا في اللطف والمجاملة. (لم يكن من قبيل الصدفة الحديث في فرنسة آنذاك عن “مصلى التفكيكيّة chapelle déconstructiviste“).

في الواقع فإنّ دريدا في العقد الأخير من حياته وفي محاضراته الثلاث بجامعة ستانفورد Stanford، أشعرنا بأنّه أكثر من زميلٌ متواضع في أسلوب تعامله الذي يذكّرنا بدبلوماسيِّ ما أو بصاحب مصنع نبيذ.

في كلّ الأحوال لم يكن لحضوره البهيّ أية علاقة بوجه النبيّ على أغلفة الكتب، بنظرته وإطلالته المبتهجة المغرقة في النشوة.

لذلك فالأمر الذي زاد من ذهولنا واندهاشنا نحن الجامعيّين الأمريكيين، كان ذلك الطقس الشعائري للبروتوكول الاحتفالي، الذي أعقب مناقشة دريدا طلّاب الدكتوراه. اصطفّوا بأناة وتصبّر، ليشكروا المعلّم بصمت وهم يشدّون على يديه، ليُكافؤوا بلحظاتٍ من التواصل البصري الصامت. غالبيّة المريدين في كاليفورنيا مرّروا إليه رسالة جوابية ضمنيّة مغلّفة بنظراتهم، تقبّلها الضيف بكلّ ودٍّ وخشوعٍ مؤثّر.

نحنُ المتفرّجين توجّسنا مما كان يُضمره كلّ ذلك الأداء الاحتفالي الراقص.

في بداية عام 1982 كان قد أُلقي القبض على دريدا، وهو في زيارة إلى تشيكوسلوفاكيا، للاشتباه بإتجاره بالمخدّرات، قبل أن يُطلق سراحه لاحقا. ذلك الشغف الضمني بالتماهي مع كاتبٍ، يكتب نصوصه تحت تأثير المخدّرات على ما يبدو، ترافق على الفور مع احتجاج دولي ساخط على توقيفه.

منذ ذلك الحين، وبعد نصف ساعة في الطريق إلى الفندق، أخبرني دريدا بأنّ تلك الرسائل الجوابية الضمنية المغلّفة كانت تقليدا متّبعا في كلّ ظهور له كضيف، لأنّه لا يجد شيئا من القوّة في قلبه ليُقرّ لأتباعه ومريديه الأسخياء بأنّ المخدّرات لن تدخل حياته أبدا.

ثمّ أنزل زجاج نافذة السيّارة متخلّصا من كلّ الهدايا، التي غدت كسحابة بيضاء صغيرة في مهبّ الريح.

لا بدّ وأنّه قد تحامل على نفسه أيضا بما يتعلّق بالنصوص والأيديولوجيّات المفضّلة لدى جموع قرّائه. هكذا ببساطة وجد دريدا صعوبة في أن يخيّب الآمال المعقودة عليه ويأخذ مسافة فاصلة من المجاملة واللطف المتوقّع منه. هذا يفسّر، لماذا اشتغل في كثيرٍ من المقالات والكتب على مواضيع ليس لديه إلّا القليل مما يمكنه قوله عنها.

ولعلّ الأمثلة الأكثر وضوحا تتمثّل في المقارنة اليائسة الطريفة بين رواية ” عوليس Ulysses ” لجيمس جويس James Joyce وصوت الحاكي (Grammophon)، كما حال عمله المتأخّر عن كارل ماركس، ينظر بتورية وتلاعب لا حدود له بالألفاظ، للخطاب في البيان الشيوعي عام 1848، كـ ” طيف “. لقد غدت حقّا كلماته تلك للنسيان تماما اليوم.

التّفكير في عالمٍ مفقود

عاد الفلاسفة في أوقاتنا هذه وهم يُدركون حدودهم، من مقامرة “نقد الميتافيزيقا” إلى رزانةٍ جديدة ولواقعٍ جديد.

بالنسبة لكتّاب مثل كوامي أنتوني أبيا Kwame Anthony Appiah في نيويورك، وبرونو لاتور Bruno Latour في باريس أو ماركوس جبريل Markus Gabriel في بون، لا مجال لتحليلاتِ موضوعية بمعناها التقليدي تماما كحاجتهم للاقتراب منها قدر الإمكان.

حاليّا، تضاءل الاندفاع المفرط للتفكيكيّة للإشارة إلى عدم شرعية الفصل الواضح بين المفاهيم، لتتحوّل وبشكلِ ساخر إلى بقايا تذكّرنا بماضِ بعيدِ مضى، كان لا يزال العالم فيه متينا قادرا على تحمّل الحيل الفلسفيّة المقنّعة بالجدّية.

الآن تواجه البشرية تحدّيا مع فيروسٍ، يعجز سواء علماء الطبيعة أو جامعو الإحصاءات عن فهمه واستيعابه. ناهيك عن العواقب الوجودية للوباء سواء على مستوى الحياة الفردية أو المجتمع ككل. من المفارقات الساخرة التي تلفح الذاكرة أنّ نصوص دريدا في الوقت الحاضر غدت سحابةٍ بيضاء لفلسفة جميلة معتدلة من عالمٍ آخر.

بالكاد يمكن التصديق، لكنّها حقيقة: في 15 تمّوز من عام 2020، كان جاك دريدا سيبلغ من العمر 90 عاما.

******

* الفهم والإدراك عملية نفسية يُقصد بها علاقة بين الشخص الذي يفهم وبين الشيء الذي يتم فهمه.

** القراءة الدقيقة تعني التفسير الدقيق والمستمر لمقطع نصي قصير وتطورت كنقد نصّي خاصة في ألمانيا مع دراسة الكتاب المقدس وهو نقد يركّز على المفردات وبناء الجمل وتتبعها تعليقات. وهي تعتبر بمثابة قراءة عن قرب كانت تشكّل استراتيجيات قراءة في الولايات المتحدة الأمريكية.

*****

نُشر المقال في موقع جمعية الأوان وهنا الرابط إليه.

رابط المقال الأصلي:

https://www.nzz.ch/feuilleton/jacques-derrida-ein-abgesang-von-hans-ulrich-gumbrecht-ld.1565083?reduced=true

هل تستطيع أمريكا الثّورة؟

هل تستطيع أمريكا الثّورة؟ ديسمبر 3, 2020

عبد الحميد محمّد

دراما الحضارة المسيحيّة

في عام 1992 حلّ البابا (يوحنّا بولس الثاني Johannes Paul II) ضيفا على جزيرة (غوري Gorée) السنغالية التي كان يُقتاد منها الزنوج إلى أمريكا، لـ “تكريم الضحايا المجهولين“. وصف البابا مآسي أولئك الضحايا بـ “دراما الحضارة التي يُسمّيها البعض مسيحية“.

في العام 2013 زار الجزيرة (باراك أوباما Barack Obama) حفيدُ أولئك الضحايا المجهولين. وقف أوباما مطلّا من بوّابة اللا عودة في النصب التذكاري (بيت العبيد)، ليُميد بنظره نحو الضفة الأخرى للأطلسي حيث تقع أمريكا التي يرأسها والتي استعبدت أجداده.

مناورة القيصر في الإصلاح وتحرير الرقّ

في العام 1856 خرجت روسيا من حربها مع العثمانيين في شبه جزيرة القرم وهي تعاني من المجاعة والفوضى، فكان على القيصر (ألكسندر الثاني) ضمان ولاء الجيش، ليلجأ لمناورة وخدعة تمثّلت في تحريم القنانة في العام 1861 وهو العام ذاته الذي بدأت فيه الحرب الأهلية الأمريكية.

لم تُغيّر خدعة القيصر من أوضاع الأقنان الروس، ولم تحرّر الحرب الأهلية الأمريكية العبيد بشكلٍ فعليّ لأنّ التحرير كان مجرّد قضيّة حزبية.

عن المقال المترجم وأهمّيته، وعن الكاتبة

سونيا مارغولينا Sonja Margolina، الكاتبة الروسية الأصل المولودة في موسكو عام 1951، تعيش في برلين منذ العام 1986 كصحفيّة مستقلّة، وتكتب باللغة الألمانية عن الشؤون الروسية. حاصلة على الدكتوراه في علم الأحياء والبيئة من الجامعات الروسية في عام 1981. حصلت في العام 1991 على جائزة الإعلام والصحافة الدولية لأفضل بحث من جامعة (كلاغنفورت Klagenfurt) النمساوية عن بحث لها عن “محاولة موسكو الانقلابية عام 1991 Moskauer Putschversuch 1991“.

لطالما أثارت كتبها الكثير من الجدالات والنقاشات وهو ما يوكّد أهمّية الموضوعات التي تناقشها. هنا تعريفٌ موجز ببعض كتبها.

– كتاب “فهم روسيا Russland verstehen

صدر في العام 1991، وفيه تتساءل عمّا إذا كان العالم سيعود لرشده، لأنّ نهاية الحرب الباردة خلقت أرضية ثقة للتعاون بين وسط وشرقي أوروبا. القيم الغربية بدت وكأنّها انتصرت، فجاء الحديث عن “نهاية التاريخ” في أطروحة (فرنسيس فوكوياما Yoshihiro Francis Fukuyama) عن “نهاية التاريخ والانسان الأخير” في العام 1989.

تصيغ عبارة جميلة في الكتاب أترجمها هنا:

أوروبا، موطن الشمولية، الدكتاتوريّات الأكثر توحّشا وماكينات الموت، بدت فجأة وكأنّها تصيغ سفينة جميلة، حيث يمكن لكلّ أحد امتلاك قُمرةٍ تخصّه، بل وحتّى الفقراء سيجدون مكانا لهم في القسم العلويّ من السفينة. ما من أحدٍ أراد أن يُصدّق أنّ هذه السفينة كانت تُدعى (تايتانيك Titanic) وأنّ المياه غمرتها ليبتلعها جبلٌ جليديٌّ مميت. الآن وبعد نصف عام ركنت السفينة في جانبٍ ما، ويسعى طاقم قيادتها بشكلٍ محموم لإعادة التوازن إليها”.تؤكّد أنّ نهاية التاريخ لم تكن إلا استراحة بين زفيرين ومرحلة انتقالية نحو سياسةٍ كونيّة لا يمكن التنبّؤ بها، قبل أن تتساءل إن كانت روسيا تنتمي لأوروبا أم لا؟

والإجابة على هذا السؤال لم تتمّ بوضوحٍ كافٍ، بل هنالك سوء فهم عميق، خاصة مع مصطلح “أوراسيا Eurasien” الذي لطالما سمعناه من أولئك المثقّفين الروس الذين يتوجّهون بأنظارهم نحو الغرب على الدوام، ويسعون لنقل الثقافات الأجنبية إلى مجتمعاتهم المحلّية الغير مستنيرة بشكلٍ تعسّفيّ لإضفاء الشرعية على وجودهم.

تُشير لمصطلح “الولع بالسلافية Slawophile” الذي صاغه مفكّران ألمانيّان كانا متحمّسين للمثالية السلافية البطولية وهما: (يوهان جوتفريد هردر Johann Gottfried Herder) و(فريدريش فيلهيلم يوزف شيلنج Friedrich Wilhelm Joseph Schelling) في القرن التاسع عشر، بينما استخدمه أحد المثقّفين الروس وهو (پيوتر تشادايڤ Pjotr Jakowlewitsch Tschaadajew) بمعنى سلبي يُشير لروسيا كدولة رجعية.

هي لا تشير لأيّ من هؤلاء المفكّرين لكنّها توضّح أنّ روسيا وشعبها تمّ تقديسهما لدى المولعين بالسلافية، لتخلص إلى أن هذه الأيديولوجيّاتٍ خلقت حقيقةٍ مشوّهة تدّعي أن الإمبراطورية الروسية كانت بلدا متطوّرا حضاريا ولكنّها لم تمتلك ميكانيزما خاصّة بها نحو التحديث والحداثة.

ويبدو أنّها ترى أن تحديث روسيا قد وصل لطريقٍ مسدود، فـ (إصلاحات بطرس الأول petrinische Reformen) السياسية والإدارية قبل حوالي 300 عام، ونشاطات الامبراطورة (كاترين الثانية)، وانتفاضات الضبّاط الديسمبريين في العهد القيصري، وإصلاحات ألكسندر الثاني، وثورة عام 1905 وثورة أكتوبر 1917، وأخيرا البيريسترويكا، كلّها فشلت.

مازالت مارغولينا مشغولة بتفسير هذا الفشل والاستدلال على أسبابه، وهذا المقال نفسه جزءٌ من سعيها للعثور على إجابات شافية.

 كتاب “نهاية الأكاذيب. روسيا واليهود في القرن العشرين

وكان أوّل كتاب تكتبه باللغة الألمانية، والعنوان بالألمانية “Das Ende der LügenRussland und die Juden im 20. Jahrhundert“.

صدر في العام 1992، ويبحث في دور اليهود في ثورة أكتوبر عام 1917، فتنطلق من ملاحظة مهمّة أقرب لسفر خروج آخر لليهود الشرقيين من الاتّحاد السوفياتي، لتؤكّد على أنّ هنالك ما لا يقلّ عن 400 ألف يهوديّ غادروا الاتّحاد السوفياتي قبل انهياره بعامين.

تقول في كتابها عن اليهود (وهي منهم على كلّ حال):

كان اليهود توابل حساء الثقافة الأوروبية. في روسيا قاموا بتمليح هذا الحساء حتى غدا غير مُستساغ“.

وهو في ألمانيا، كما في كلّ أوروبا، كتابٌ يُعدّ معاديا للسامية، ولذلك يستصعب الألمان أنفسهم أن يكتبوا عن كتابٍ بهذه الصفة، لكن ما هو مؤكّد أنّ الكتابة عنه ليست جرما خاصة وأنه طُبع في العاصمة الألمانية برلين. والمؤرّخة الألمانية في مركز برلين لأبحاث معاداة السامية (جوليانا فيتزل Juliane Wetzel) انتقدت الكتاب بشدّة باعتباره يُسيء لليهود ويظهرهم جناة ومعادين للسامية حتى.

يُظهر الكتاب اليهود في الثورة الروسية جناة وضحايا في الوقت عينه، وأنّ الشمولية كانت مشروعا يهوديّا، وسقوط النظام الشيوعي فرصة للكتابة عن اليهودية في القرن العشرين برؤية جديدة.

الرأسمالية والليبرالية أودتا باليهود إلى العيش في غيتوات معزولة، مع أنّهم كانوا ركيزة ثقافية واقتصادية لمجتمعاتهم المحلّية في الدول القومية الحديثة. فاليهود لعبوا دورا في تطوير المجتمع البرجوازي بروسيا، وما أعاق ذلك كانت ثورة لينين، فتشير لدور تروتسكي وسلوكياته في معاداة الفلّاحين الروس، لكنّه لم يكن استثناء في ذلك.

تكشف مارغولينا أنّ اليهود المتعلّمين ارتقوا أثناء الثورة البلشفية حتى شكّلوا طبقة برجوازية معادية لليهودية كدين ولليهود من الطبقات الضعيفة، لكنّها تؤكّد أنّ حملات عديدة معادية للسامية نفّذها السوفييت لترسيخ حكمهم، بعدما قرّر ستالين تصفية النخبة اليهودية التي ساهمت في الثورة.

كان الخوف من اليهود ينال من البلاشفة مأخذا، فكان هنالك دوما تخوّفٌ من حمّام دم ومذابح قد تُقترفُ بحق اليهود الروس أثناء الحرب الأهلية، خاصة وأنّ اليهود لم تكن لهم خياراتٌ سياسية للانتقام من الظلم التاريخي الذي لحق بهم، سوى المساهمة في الثورة الشيوعية التي حفظتهم إلى حينٍ فقط، وهم وإن كانوا ضحيّة إبادة جماعية إلا إنهم كانوا جزءا من النظام القاتل لدى النازيين.

تحثُّ اليهود لكسر المرآة لأجل المستقبل، فالدفاع عن الشعوب الأخرى لا يقلّ سموّا وأخلاقا عمّا هو عليه الدفاع عن المصالح اليهودية، وحجّة (الهولوكوست) ستكون غير مقنعة حين تُستخدمُ في النزاعات السياسية لتنفيذ بعض المصالح التي تمتاز بقصر نظر.

تدعو اليهود إلى احترام ما قاله الفرنسي (مانس سبيربر Manès Sperber):

إنّكم تبالغون في تقديرنا نحن اليهود بهذه الطريقة الخطيرة التي تدفعكم لحبّ شعبنا كلّه. لا أُريد أن يحبّنا أحد أو يحبّ أي شعبٍ آخر بهذه الطريقة“.

– كتاب “روسيا: المجتمع اللا مدني Russland: Die nichtzivile Gesellschaft“

صدر عام 1994، وتنطلق فيه من الفوضى التي عاشتها روسيا منذ تسعينيّات القرن العشرين، لتبحث عن ذلك الخيط الذي يربط بين ماضيها وحاضرها، فتصل إلى أنّ عملية إرساء الحضارة في المجتمع الروسي سواء في العهد القيصري أو السوفياتي حالت دونها على الدوام سلطة الدولة التي لم تتسامح مع أي مصدر آخر لهويّة هذه الدولة سوى مع ذاتها السلطوية كمصدر وحيدٍ مطلق، لتتساءل إن كان بإمكان مجتمعٍ بهذا القدر من الضعف والهشاشة أن يشقّ بمفرده طريقه إلى الديمقراطية والرقيّ الحضاري.

كتاب “النهاية الهادئة للعالم. الخروج عن هستيريا المناخ ونقاش حول الهجرة في ألمانيا Die gemütliche Apokalypse: Unbotmäßiges zu Klimahysterie und Einwanderungsdebatte in Deutschland“

صدر في العام 1995، وتبدو فيه وكأنّها تشكّك بقدرة أوروبا على مواجهة التطوّرات السياسية والاقتصادية والبيئيّة، لتصفها بقولها “أوروبا غدت عجوزا متعبة“.

وتنتقد قوانين الهجرة في ألمانيا ولا سيما “مبدأ حقّ الدم Prinzip des ius sanguinis” المتعلّق بمنح الجنسية الألمانية، فتدعو أوربا لتتخلّص من تفكيرها الأحادي البعد.

كتاب “الفودكا: الشُرب والسلطة في روسيا Wodka: Trinken und Macht in Russland ”

صدر في العام 2004، وهو عن العلاقة السرمدية بين الفودكا والسلطة في روسيا من بطرس الأكبر إلى غورباتشوف ثم بوتين، وفيه وجدت دورا كارثيّا للفودكا على مصير روسيا والسلطة فيها.

مارغولينا والرواية

أصدرت في العام 2011 رواية “رائحة الحريق Brandgeruch ” التي تنطلق من انهيار الاتحاد السوفياتي بعد “البيريسترويكا Die Perestroika” لتستكشف الصلات الوثيقة بين الكنيسة والنظام في روسيا والمخابرات السرّية، فتدور معظم أحداثها في دير أرثوذكسي.

وفي العام 2013 أصدرت رواية “العصر الجليدي Kaltzeit“، وتعالج فيه العلاقة بين المناخ والحب والجريمة، عبر التعمّق في انعكاسات المناخ على البشر، معتبرة أنّ التغيّر المناخي إنّما يحدث أوّلا في عقول البشر ووسائل الإعلام، وهذا يتسبّبُ في خلق أوهامٍ تنهار أمام الواقع الحقيقي، ويُعبّر عن مخاوف الناس من الهلاك وعن تفاهات البعض ممّن يبحثون عن مصالحهم الذاتية ويعشقون الغطرسة. تدور أحداثها في مناطق عديدة كالقوقاز والقطب الجنوبي وبرلين وغيرها.

هذا المقال أقرب لبانوراما عن روسيا بتاريخها السياسي والاجتماعي والثقافي والأدبي قبل أن يصل للسؤال عن مستقبل أمريكا وعمّا إذا كان من الممكن أن تشهد ثورة كثورة البلاشفة في روسيا عام 1917، ولذلك حرصتُ على استكماله بهوامش وبهذه البيبلوغرافيا عن صاحبته وهو ما استلزم بحثا وحتى ترجمات أخرى متفرّقة، لتكتمل الصورة لدى القرّاء.

والمقال يُثير الكثير من التخوّفاتٍ والاحتمالات والتساؤلات، لكنّه يكشف كذلك الكثير من الخفايا والأسرار عن كتّاب وأدباء ومفكّرين روس قرأناهم ونظرنا لهم بعينٍ مغايرة عمّا يبدون عليه في هذا المقال، كبوشكين وتولستوي على وجه الخصوص.

الترجمة الكاملة للمقال

هل تستطيع أمريكا الثورة؟ كان في أمريكا العبيد السود، بينما في روسيا كان الأقنان. مقارنة تاريخية مع إطلالة على الحاضر.

ليس هنالك الكثير من التقاطعات التاريخيّة بين أمريكا وروسيا. واحدة من تلك التقاطعات تُعدّ الأقلّ حظوة بالاهتمام، وهي مشكلة القنانة والعبوديّة. هنا وهناك تم التغلّب على سوء الحال، لكن مع ذلك فقد ترك الأمر آثارا دائمة.

كان الشاعر القومي الروسي ألكسندر بوشكين Alexander Puschkin “رجلا ملوّنا”: بشرة داكنة، مع شعرٍ أسود أشعث مجعّد وشفاهٍ شهوانيّة ممتلئة بالكامل. “زنجي بطرس الأكبر([1]) إبراهام بتروفيتش هانيبال يُفترضُ أنّه وُلد كابن لأمير أفريقيّ محلّي إما في لوغون شيفان Logon بأريتيريا أو في لوغونه_ بريني Logone-Birni بالكاميرون، كان المبعوث الروسي الكونت تولستوي Tolstoi ([2]) قد اشتراه من تاجر رقيق عثماني، ليُقدّمه إلى بطرس الأكبر كهديّة. الأصل الغريب لم يمنع ذلك الأسود والابن الروحي لبطرس الأكبر من العمل في مهنةٍ رائعة كحاكم لمنطقة ريفال Reval (Tallinn) وقائد عام للحصن البحري لإنجاز بناء القناة.

الشاعر نفسه كان فخورا بنسبه في وقتٍ لم يفوّت فرصة إلا ومارس فيها التهكّم على ذاته ” وأنا الصفيق الأبديّ، حفيدٌ وقحٌ لزنجي، أحظى بالإعجاب لدى الفتيات اليافعات الجميلات بفضل الوقاحة في شهواتي الرائعة“. لكن في عام 1820 هاله كثيرا حال العبيد السود، حتى قارن حالهم تلك مع حال اليونانيين الذين كافحوا ضدّ الأتراك لنيل استقلالهم بدءا من عام 1821: “يُمكن الإمعان في تأمّل مصير اليونانيين كما في مصير أخوتي الزنوج“.

تقليد وحشي

لم تمتلك روسيا مستعمراتٍ فيما وراء البحار_ بينما بقيت ألاسكا استثناء من ذلك ([3])_ ولم تساهم في تجارة الرقيق التي تورّطت فيها القوى الأوروبية. مع ذلك فقد ساوى المعاصرون بين القنانة حيثُ كان المزارعون يُعتبرون قانونيا مِلكا شخصيّا لملّاكي الأراضي، وبين حالة الزنوج السود في مجتمعات العبيد والرقيق. وبناء على ذلك أصبحت العبودية الأمريكية نقطة مرجعيّة في نقد العلاقات الاقتصادية والاجتماعية في الإمبراطورية الروسيّة في نهاية القرن الثامن عشر وأوائل القرن التاسع عشر.

ما يؤكّد هذا هو أنّ الأقنان لم يكونوا أقلّ عبودية من أخوة بوشكين، وهو ما سبق وأكّدته رواية “رحلة من سانت بطرسبورغ إلى موسكو” عام 1790 لـ “ألكسندر راديشيف Alexander Radischtschew” أحد أوائل الدّاعين إلى التحرّر من الرقّ والعبودية، فشجب وندّد فيها بفساد ووحشية وهمجية الطبقات المسيطرة ضدّ الأقنان. لقد أظهر استعباد واسترقاق إنسانٍ من آخر كـ “تقليدٍ وحشي eine bestialische Tradition“. بعد أن قرأت كاترين الثانية Katharina II كتاب راديشيف والقلم بيديها، علّقت أيضا على المشاهد المأساوية من المزاد العلني لعائلة فلّاحية، وقتل أحد ملّاكي الأراضي، ممن زُعم أنه قد قام باغتصاب ستين فتاة خلال انتفاضة الفلّاحين، فحُكم على راديشيف بالموت قبل أن يُعفى عنه أخيرا من قبل الامبراطورة المستنيرة، ليُنفى ويُبعد إلى سيبيريا لمدّة عشر سنوات.

في عام 1807 نُشرت مجموعة نصوص أدبية مختارة، وفيها مقال “تاليا Thalia” لـ ” فاسيلي بوبوغاييف Wassili Popugajew”، وكان قد كُتب فيه بالأسود على الأبيض: “لا يوجد أيّ قانون يُسمح فيه بأن يكون زنجيّ ما ملكا لرجلٍ أبيض“، وهو ما فهمه القرّاء دونما صعوبة بأنّه تلميحٌ إلى القنانة في بلاده. “الفلّاحون مازالوا حتى يومنا هذا عبيدا تحت أمرتنا“.

القنّ أندريه لوزماتوف Andrei Lozmanow الذي كان قد فكّر بتأسيس جمعية سرّية مناهضة للقنانة Leibeigenschaft، كتب قصّة بعنوان “زنوج، أو الحرّية المستعادة” وفيها يقوم شابٌّ أسود بفضح وحشية مالكي العبيد الذين يدوسون بأقدامهم الدين والمساواة الإنسانية. اقتُيد ذلك المزارع المنتفض إلى أحد السجون من قبل القيصر نيقولا الأول.

كوخ العمّ فانيا ([4])

ولكن مع ذلك التعاطف الكبير مع الأخوة السود([5]) وأقرانهم من البيض في تلك المعاناة، يغدو من السهل إخفاء حقيقة أنّ بوشكين فضلا عن جميع الشعراء والمفكّرين الروس في العصر الذهبي للثقافة الروسية في النصف الأول من القرن التاسع عشر- وينبغي هنا أيضا ذكر الفيلسوف بيتر تشاداييف Petr Tschaadajew، وشعراء كما ميخائيل ليرمنتوف Michail Lermontow  وإيفان تورغنييف Iwan Turgenjew – والكتّاب المعارضين للنظام كألكسندر هيرزن Alexander Herzen، كلّهم كانوا مالكين (مستعبدين) لأرواحٍ بشرية ولأقنان، فهم كانوا يعيشون من إيرادات ومداخيل استغلالهم لأولئك الأقنان. قبل تحرير الفلاحين عام 1861 كان يوجد في الإمبراطورية الروسية خانعون وأتباع بصفة أقنان أكثر مما وُجد من العبيد السود في الولايات المتحدة الأمريكية، حيث كان يعيش هناك قبل الحرب الأهلية أربعة ملايين فقط من السود الأمريكان، وهو ما كان يشكّل ما نسبته 12 % فقط من مجموع الشعب آنذاك وهو 34,4 مليون، في وقت كان يبلغ فيه عدد الأقنان الروس 23 مليونا أي ما نسبته 34 %، أي ثلث الشعب الروسي الذي كان تعداده الكلّي آنذاك يبلغ 67 مليونا.

إضافة لذلك، كانت نسبة الأقنان بين الإثنية الروسية بالذات أعلى بكثير مما بين بقيّة الشعوب المنضوية تحت لواء الإمبراطورية الروسية، وأعلى بحوالي الضعف مما بين الأوكرانيين. في مناطق وسط روسيا كما في مدينة تولا Tulaer ومحافظة سمولينسك Smolensk وصلت نسبة أولئك الأقنان إلى 70 %. وبمقتضى ذلك تأثّرت الإثنية الروسية لدرجة أكبر من القوميات التي استعمرتها الإمبراطورية الروسية بالعنف والتجرّد من الإنسانية في استغلال نظام القنانة.

لذلك لم يكن من قبيل الصدفة أنّ الأحداث في رواية نيقولاي غوغول Nikolai Gogols الشهيرة “الأرواح الميّتة Tote Seelen” عام 1842 وفي “مذكّرات صيّاد Aufzeichnungen eines Jägers ” لإيفان تورغنييف Iwan Turgenjews (1847–1852) كانت تدور في وسط روسيا. المؤرّخ الأدبي ألكسندر سكابيتشفسكي Alexander Skabitschewski قيّم وثمّن روايات تورغنييف سواء كـ “أثر تاريخيّ قيّمٍ عن زمنه” أو أهمّيتها في بُعدها الاحتجاجي على القنانة. أما “مذكّرات صيّاد” فبدت امتدادا لـ “الأرواح الميّتة”، لتعبّرا عن الروح الانسانيّة وحبّ خالصٍ لـ ” المزارع المسحوق”. هذه الروح ذاتها طبعت أيضا الرواية الداعية للتحرّر من العبودية والتي نُشرت في الوقت ذاته تقريبا ” كوخ العمّ توم Onkel Toms Hütte” لـ “هاريت بيتشر ستو Harriet Beecher Stowe”([6]) عام 1852.

تزداد رمزية المقارنة بين الأقنان الروس والعبيد الأمريكان أكثر فأكثر، إذا أخذنا بالاعتبار أنّ الدولتين كانتا مقبلتين على تطوّرات دراماتيكية في ذات الوقت: إصلاحات التحرير للقيصر الاسكندر الثاني Alexander II، وإلغاء العبودية في الحرب الأهلية الأمريكية. بعد وقت قصير من الإرادة الملكية في تحرير الأقنان، نُشرت في سانت بطرسبورغ Sankt Petersburg ترجمة “كوخ العمّ توم”. في العام اللاحق نشر الشاعر الشعبي نيكولاي نكراسوف Nikolai Nekrassow الرواية كملحق لمجلّته “المعاصر”. كتب في رسالته إلى إيفان تورغنييف: “بالنسبة للسؤال المتعلّق بزنوجنا المحلّيين فهو يحظى لدينا بأهمّية كبيرة في الوقت الحاضر“.

وُجدت نُسخٌ لا تُعدّ ولا تُحصى من “كوخ العمّ توم”، حتّى غدت في فترة ما قبل الثورة الروسيّة على قائمة القراءة الإلزامية المطلوبة لدى الأطفال. كتب المؤرّخ الأدبي المذكور أعلاه ألكسندر سكابيتشفسكي إنّ قصص العبيد السود والأقنان المحلّيين كانت “تتشابه في كثير من مشاهدها الوحشيّة، تلك التي وُجدت في ولايات العبيد وإقطاعيّات النبلاء الروس“.

لكن أيضا فيما يتعلّق بالمفكّرين الذين حاولوا تبرير القنانة بعد انتهائها، باعتبارها ضرورة تاريخية، فعددهم لم يكن قليلا في روسيا. كان أكثرهم أصالة الفيلسوف المحافظ قسطنطين ليونتيف Konstantin Leontjew الذي حظي بحمل لقب “نيتشه الروسي“. في عمله ” الشرق، روسيا والسلافية Der Orient, Russland und das Slawentum” الصادر في الفترة (1885/1886)، برّر بأنّه كان على ملايين البشر من الروس تحمّل أعباء الاستبداد والمعاناة في ظلّ القنانة لقرون، ليُنجز بوشكين ” اونيغين Onegin”([7]) و”بوريس غودونوف Boris Godunow”([8])، ولإنشاء “الكرملين وكاتدرائيّتها” اللتين “بُنيتا ليحقّق سوفوروف Suworow ([9])وكوتوزوف Kutusow ([10]) انتصاراتهما القومية”.

هكذا، بدون القمع الوحشي للخدم والأتباع في بلدٍ رجعيّ متخلّف، ما كان بمقدور ليونتيف Leontjew ([11]تقديم خدماته الثقافية العظيمة للإمبراطورية. ينتمي للعبودية أيضا حقّ التصرّف بالفتيات من الأقنان كما لدى بوشكين وتولستوي Tolstoi، اللذين يُعتقدُ أنّهما قد تركا المئات من الأحفاد في ممتلكاتهما، كنتيجة لما مارساه من الفجور والبغاء.

السؤال المتعلّق بزنوجنا المحلّيين

برهن ألكسيس دو توكفيل Alexis de Tocqueville في كتابه “حول الديمقراطية في أمريكا Über die Demokratie in Amerika” على أنّ الحرية هي القوّة الدافعة للأمريكيين، بينما تشكّل العبودية قوة دافعة للروس. بسبب هذا الرأي القاطع يبدو من العبث تماما محاولة العثور على تقاطعاتٍ مشتركة بين حضارتين مختلفتين بهذا الشكل، في وقت يُفترض أنّهما تُديران وتوجّهان ” مصير نصف الكرة الأرضية” في القرن العشرين.

مما يبعث على الدهشة أن ليس هنالك من هو أقلّ سعيا لفعل ذلك بالضبط، من فلاديمير لينين Wladimir Lenin. في عام 1913 كتب لينين كرّاسة بعنوان ” الروس والزنوج Russen und Neger” لكنّها لم تُنشر لغاية وفاته. قارن فيها لينين بين التطوّر الاجتماعي لكلّ من الروس والأمريكيين السود بعد إلغاء العبودية عبر مثال الأمّية. كانت نسبة الأمّيين بروسيا في عام 1900 تبلغ 73 % وهي نسبة كانت أقلّ مما لدى السود في أمريكا حيث بلغت نسبتهم 44,5%. ينظر لينين لذلك العدد الهائل من الأمّيين في وطنه كمضاعفاتٍ متأخرة طويلة المدى للعبودية. “اليوم، وبعد خمسين عاما، ترتسم ملامح العبوديّة على الروس أكثر مما ترتسم على الزنوج. سيكون أكثر دقّة القول بإنها ليست مجرّد آثار، بل مؤسّسات“.

التقدّم النسبي للسود يفسّر حقيقة أنّ نظام العبودية قد تمّ تدميره بشكلٍ جذري في الحرب الأهلية الدموية، في وقتٍ ساهم فيه التحرير السلمي “من الأعلى” في روسيا، وإلى حدّ كبير، في الحفاظ على المؤسّسات الإقطاعية وما يتعلّق بها. يبدو واضحا أنّ لينين لا يتحدّث عن حقيقة دقيقة ويناور لاستكمال خطّه الأيديولوجي. ذلك أنه وبعد الحرب الأهلية الأمريكية لم يكن ممكنا الحديث عن مسألة المساواة في الحقوق المدنية. وسواء تعلّق الأمر بالسود أو الأقنان الروس، فقد تم تحريرهم وهم ” بلا أرض”، ليضطّروا بحكم الحاجة والعوز للعمل في السخرة لسداد الديون. عبر الفصل العنصري تم الحفاظ جزئيا على هياكل السلطة والقوّة في الولايات الجنوبية.

في روسيا مُنعت المجتمعات الزراعية التي تُدارُ ذاتيّا (مجتمع القرية Obschtschina) ([12])، والتي نظر إليها الثوريون القوميّون كنموذجٍ أولي مبدئيّ للمجتمع الاشتراكي، ناتج عن تطوّر العلاقات الرأسمالية في الريف.  في عُرف لينين شكّلت الحرب الأهلية الطريقة والإمكانية الوحيدة لتدمير ونسف البنية الطبقية في هرمية المجتمع الاقطاعي، لتعبيد الطريق لأحفاد الأقنان للانتقال من الإقطاعية إلى الاشتراكية “لتجاوز وتخطّي المرحلة الرأسمالية”.

كما هو معروف، فإن دكتاتورية البلاشفة لم تقتصر فقط على حلّ جميع الطبقات المالكة القديمة وتجريدها من كلّ ممتلكاتها واختصارها في طبقة “عظيمة”، بل إنّ كثيرين تمّت تصفية ذويهم وأقاربهم جسديا. وبشكل خاص فإن الزراعة الجماعية المشتركة في نهاية عشرينيات القرن العشرين وبداية الثلاثينيّات سارت جنبا إلى جنب مع إبادة جماعية وتدميرٍ لممتلكات الفلّاحين مع ترسيخ سلطة واستعباد الدولة. لقد تم تقييد الحقوق المدنية وحصرها لمزارعي المزارع الجماعية (مزارع الكولخوز Kolchosbauern)([13]) لغاية عام 1974. لم يمتلكوا بطاقة الهويّة الشخصية، وكانوا كأنما هم مقيّدون بالأرض لا يحقّ لهم مبارحتها.

للوصول إلى المساواة الكاملة بين السود والبيض في الولايات المتحدة الأمريكية كان يجب الانتظار لغاية ستّينيات القرن العشرين.

لينكولن13(lincolns 13) ([14])، تعديلٌ إضافي في عام 1865 ألغى العبودية على الورق، وصودق عليه في ولاية ميسيسيبي Mississippi في أوائل عام 1995. من جانب آخر فإن حركة الحقوق المدنية والإلغاء القانوني للفصل العنصري مثلها مثل إجراءات ” التمييز الإيجابي affirmative Action”([15]) التي يُفترضُ أنها ستعوّض عن أضرار ومساوئ التمييز الهيكلي ضدّ السود، لم تستطع التغلّب على إرث الفصل العنصري حتى اليوم. لقد بقيت آثار العبودية لدى الروس كما لدى السود الأمريكيين حتى ما بعد مائة عامٍ من التحرّر.

هل يعني هذا، حسبما تساءل المؤرّخ الثقافي الروسي- الأمريكي ألكساندر إتكيند Alexander Etkind ([16])، أن الحرب الأهلية الأمريكية يمكن خوضها الآن فقط بقوة أكثر لإيصالها لخواتيمها، ليتمّ حل المشاكل العالقة منذ أكثر من مائة وخمسين عاما؟

سُلالة عرقية بدلا عن طبقة

بالنسبة للمهاجرين الروس، كما لأولئك المثقّفين ذات التوجّه الغربي في روسيا بالذات، ولا سيما ممّن انخرطوا في النظام الشيوعي، فهذا عرضٌ يُثير القلق والجزع. أعمال الشغب العنيفة، ومطالب اليسار الراديكالي لحركة “حياة السود مهمّة Black Lives Matter“، و”الثورة الثقافية Kulturrevolution” في الجامعات ووسائل الإعلام المتصاعد دورها، يشعر معها كثيرون كما لو أنّها “وهم سبق الرؤية Déjà-vu” ([17]) بحيث تذكّرنا الأحداث الجارية حاليا في الولايات المتّحدة الأمريكية بالكثير من تلك الأجواء التي سبقت ورافقت ثورة أكتوبر.

الصحفي ميخائيل أناتوليفيتش تاراتوتا Michail Taratuta الذي كان مراسلا صحفيا بأمريكا في تسعينيّات القرن العشرين ([18])، حاول في مدوّنته لدى الإذاعة المستقلّة “صدى موسكو Echo Moskwy” التناغم والانسجام مع التحفّظات الروسيّة، ليكتب أنّ الجمهور الليبرالي في الولايات المتّحدة الأمريكية توّاقٌ متعطّش للتغيير والعدالة الاجتماعية والحدّ من وحشية الشرطة ومكافحة العنصرية بلا هوادة. هكذا بالضبط كان المثقّفون الروس (الأنتليجنسيا Intelligenzia)، قبل أكثر من مائة عام، متحمّسين للتغيير والمساواة والإخاء، ليساعدوا بذلك البلاشفة في الاستيلاء على السلطة.

وعلى غرار ما كان عليه الليبراليون الأمريكان فيما يتعلّق بالسود، كان المثقّفون الروس، آنذاك، ملؤهم الشعور بالذنب نحو البروليتاريا Proletariat و”الناس البسطاءeinfachen Menschen”. بعد الاستيلاء على السلطة سيدمّر البلاشفة المؤسّسات القديمة، لتنقلب موازين القوى رأسا على عقب. كلّ أولئك البشر ممن هم من أصولٍ غير بروليتارية، وكذلك المثقّفون، تم الحجر على حقوقهم المدنية. وعبر ما سُمّي بـ “التعيين والإخلاء الإلزامي القسري Zwangszuweisung ” تمّ تحويل بيوتهم إلى دُورٍ جماعية مشتركة لـيقطنها “المضطّهدون”، ولا سيما تلك الشقق الجماعية المشتركة ” Kommunalkas”([19]) سيّئة الصيت والسمعة، بعد تحويرها. كان ينبغي مؤازرة البروليتاريا عبر “التمييز الإيجابي positive Diskriminierung ” لتكون قادرة على النهوض بجهاز الدولة السوفياتية، وفقا لما جاء في سطور “نشيد الأممية”:

كونوا أنتم الوجود، بجموعٍ قويّة، هبّوا لاح الظفر([20])

في الولايات المتّحدة الأمريكية، وفقا لتاراتوتا، سيعثر “التقدّميون Progressisten”([21]) على جنودهم “جنود الثورة” في حركة “حياة السود مهمّة Black Lives Matter ” التي سعت تحت شعار “من أجل العدالة العرقية Für Rassengerechtigkeit” لهدف جليّ يتمثّل في القضاء على الرأسمالية – باللجوء لنزع الملكيّة وإعادة توزيعها. للأفكار اليسارية جذورٌ عميقة في أوساط السود كبيئة اجتماعية حاضنة، ما خلق خليطا متفجّرا من اشتراكية عرقية Rassensozialismus. “ينظر الروس برعب إلى فقاعة وحدة التفكير[22]. عار العنصريين يُذكّر بعار أعداء الشعب. والتنديد والشجب بات رائجا[23]“.

ردّ فعلٍ مبالغٍ فيه كهذا يبدو غير واقعيّ في الغرب، ويعطي انطباعا بأنّه نهجٌ يميني، لأنّ روسيا لا تصلح لتكون نموذجا للديمقراطية وحقوق الإنسان، بل إنّها على النقيض من ذلك. ولكن هذا هو بالضبط ما يهمّ أولئك الذين يئسوا من “الثورة الثقافية Kulturrevolution” في الولايات المتّحدة الأمريكية: ببساطة هو الخوف من “1917” أمريكية.

كانت ضريبة الدم كبيرة في الاشتراكية، وكانت هالة أمريكا وقدسيّتها جذّابة، تُضيء من خلف الستار الحديدي، كأرضٌ للشوق، صعبةُ المنال لا تُطال.

******

نُشر المقال في موقع الأوان وهنا الرابط إليه.

مصدر المقال الأصلي

الهوامش

([1]). زنجي بطرس الأكبر هو عمل روائي للشاعر الروسي بوشكين، ويُوصف في الرواية بالحبشي.

([2]). أحد أشهر العسكريين الروس، لُقب بـ “الأمريكي” وسيء السمعة، عُد نموذجا للشخصيات الأدبية لدى الكتاب الروس.

([3]). استعمار روسيا لألاسكا بدأه “ألكسندر أندريفيتش بارانوف Alexander Andrejewitsch Baranow “.

([4]). لأنطون تشيخوف مسرحية بهذا العنوان.

([5]) . الأخوة السود رواية أطفال عالمية للكاتبة الألمانية ليزا تيتزنر Lisa Tetzner.

([6]). هاريت بيتشر ستو ناشطة أمريكية مناهضة للعبودية. كانت ملهمة حتى للرئيس الأمريكي (إبراهام لنكولن) نفسه.

([7]). Eugene Onegin رواية شعرية لبوشكين وحوّلها تشايكوفسكي Tschaikowski إلى أوبرا.

([8]). Boris Godunow أيضا مسرحية لبوشكين، تشير للقيصر الروسي (بوريس غودونوف) ذو الأصول التتارية الذي أصبح إمبراطورا بين العامين 1598 و1605. ارتبطت نشأة نظام القنانة باسمه. تمّ عرضها في موسكو في العام 2015 وكان من أهمّ إسقاطاتها أنّها أشارت لـ (فلاديمير بوتين) كمغتصبٍ للحكم.

([9]) . (ألكسندر سوفوروف Alexander Wassiljewitsch Suworow) أحد أشهر القادة العسكريين الروس..

([10]). (ميخائيل كوتوزوف Michail Illarionowitsch Kutusow) وهو أيضا من أهم القادة العسكريين الروس وأهمّ ما قام به هو انتصاره على نابليون بونابرت في عام 1812. يرد ذكره في رواية تولستوي الشهيرة (الحرب والسلام).

([11]) قسطنطين نيكولاييفيتش ليونتيف Konstantin Nikolajewitsch Leontjew مفكّر روسي قال بالتفرّد الثقافي الروسي المتوافق جماليا مع متطلّبات التنوّع. أوجد مصطلح “جماليات الإذعان Ästhetik der Unterwerfung”. اعتبر الإخلاص للعقيدة المسيحية ظاهرة جمالية تتعالى على الحياة اليومية، وأن الجماليات أفضل مقياس للحياة والتاريخ. عدّ ما كان يقوم به ديستوفسكي من خلط بين الفكر المسيحي والفكر الليبرالي خطرا على الشعب الروسي. طالب بردّ روسي على التنوير الأوربي.

([12]). كانت القرية مسؤولة بشكل جماعي أمام الإقطاعي في تحصيل الضرائب، وهي مستوطنة من منزل واحد وتُسمّى “خوتور”. ماركس مدح نظام توزيع الأراضي المعروف بـ ” Obschtschina”، أما “الكولخوز” السوفياتي فكان ذات التزام ضريبي مشترك.

([13]). الكولخوزات كانت ذات ملكية جماعية، والسوفخوز ملكية الدولة. كلا الشكلين ظهرا بالوجود بعملية تأميم قسري لممتلكات المواطنين الروس بدءا من عام 1928.

([14]). تُشير الكاتبة إلى التعديل الثالث عشر لإعلان الرئيس الأمريكي (أبراهام لينكون Abraham Lincoln) حول التحرّر من العبودية. سمح هذا التعديل بفرض التحرّر بالقوّة على الولايات.

([15]). مصطلح التمييز الإيجابي يُشير إلى آلية إنعاش تعتمدها الدولة لتشجيع الأقليّات التي تعرّضت للتمييز العرقي أو الجنسي، وإصلاح التمييز السابق عبر تقديم تسهيلات في التوظيف والتعليم والاقتصاد والأعمال.

([16]). ألكساندر إتكيند Alexander Markowitsch Etkind ومؤرّخ روسي معروف مختصّ بالتاريخ الثقافي للحضارات وبالتاريخ الاستعماري. حسب إتكيند فالأيديولوجيا السوفياتية كانت تتوجّه نحو المستقبل أما الأيديولوجيا الروسية اليوم فتتوجّه نحو الماضي بشكل مهووس وهستيري ومن يمثّل هذه الأيديولوجيا اليوم هو بوتين.

([17]). Déjà-vu هي كلمة فرنسية الأصل وتعني “شُوهد من قبل”، وأطلق عليها (فرويد) صفة “الظواهر الخارقة للطبيعة”.

([18]). ميخائيل أناتولوفيتش تاراتوتا Mikhail Anatolyevich Taratuta صحفي روسي ومحلّل ومؤرّخ للحياة الأمريكية. كان أول مراسل سوفييتي في أمريكا. يحمل الجنسية الأمريكية لكنه يُعرّف نفسه بأنّه روسي. في عام 2017 قال تاراتوتا: “إذا فاز ترامب، فكلّ شيء سيبدأ من الصفر”. وكان يعبّر عن رغبة في وصوله للحكم بدلا عن (هيلاري كلينتون) التي كانت تعتبر روسيا عدوّا خطيرا، أما ترامب فوصوله لحكم أمريكا فرصة لتحسين العلاقات الروسية الأمريكية. يرى أن شخصية ترامب ومؤهّلاته لا تناسب دور الرئيس ويمكن أن تودي بأمريكا إلى كارثة عظيمة لأنّه يفتقد للكفاءة.

([19]). هذا النمط المسمّى (Kommunalkas كومونالكاس) انتشر في الاتحاد السوفياتي مع العام 1917 ووصول البلاشفة للحكم، حيث زُجّ بأصحاب هذه الأبنية الأصليين في غرفة واحدة منها لإسكان العمّال والفلاحين فيها. اعتبرت الأيديولوجيا السوفياتية أن الشقّة السكنية من الكماليات، وكل ملكية خاصة معيبة وتتناقض مع المبادئ الشيوعية، فكانت المساحة التي يٌسمح بها لأيّة عائلة لا تتجاوز تسعة أمتارٍ مربّعة. الزعيم السوفياتي (نيكيتا خروتشوف Nikita Chruschtschow) أمر ببناء شقق جديدة معروفة باسم المساكن الخروتشوفية (خروتشيفكا). بدا خروتشوف كمن ينقلب على الإرث الستاليني محاولا ترك حيّز وهامش شخصيّ خاص للسكان ولذلك عُد سلوكه بمثابة الانقلاب وثورة برجوازية بطابع سوفياتي، ومعظم من سكن المساكن الخروتشوفية شكّلوا طبقة وسطى انبثقت منها الطبقة البرجوازية في روسيا بعد انهيار الاتّحاد السوفياتي. قوانين الملكية في روسيا يشوبها الغموض حتى الآن. يمكن التعرّف على هذا النوع من الشقق عبر هذا الرابط  أو الرابط.

([20]). اعتمدتُ الترجمة العربية الدارجة ولم أحاول ترجمته من جديد. النشيد الأممي كُتبه الشاعر الفرنسي (أوجين بوتييه Eugene Pottier) في عام 1871 تخليدا لذكرى كومونة باريس. في عام 1917 اعتمده (لينين) كنشيد رسميّ للاتحاد السوفياتي. في عام 1943 لجأ ستالين لإسباغه بطابع قومي روسي، ليُصبح اسمه نشيد السوفييت. يمكن قراءة الترجمة العربية لكامل النشيد عبر هذا الرابط، أما باقي اللغات فعبر هذا الرابط.

([21]). الرئيس الأمريكي (ثيودور روزفلت Theodore Roosevelt) اعتُبر رمزا للحركة التقدمية بأمريكا مع أنّه كان مؤمنا بتفوّق العرق الأنجلوساكسوني الأبيض. متحف نيويورك قرّر إزالة تمثال روزفلت مع بدء الحراك المناهض للعنصرية بعد مقتل الأمريكي (جورج فلويد George Floyd) على يد الشرطة في 25 أيار 2020. دونالد ترامب رأى في إزالة تمثال روزفلت خطوة سخيفة. قُيل عن روزفلت إنّ توجّهاته كانت أكثر ميلا نحو اليسار. كثيرا ما يتم الربط بين التقدميّين والدولة العميقة في أمريكا. صدر في عام 1916 كتاب “الدولة العميقة The Deep State” للجمهوري (مايك وفغرين Mike Lofgren) وفيه ذهب إلى أن هنالك تكتّلا سياسيا بين اليساريين وأنصار العولمة والسياسيين لتشكيل حكومة ظل والاستيلاء على مراكز السلطة بأمريكا.

([22]) . يُقصد بوحدة التفكير هنا الليبرالية الجديدة التي تتحدث عن العدالة في أوروبا.

([23]). مصطلح Denunziation يُشير عادة إلى أن هنالك اتّهاما بوجود خطأ ما. وهو يُربط غالبا بالاتفاقيات وأسباب إلغائها أو تعديلها.

******

 

الكاتب الألماني دانييل كيلمان: عمّا قريب ، سيُصبح ترامب من التاريخ ج 1

عبد الحميد محمّد

ما الذي تفعله هذه الأرض بكلّ هذه الدماء؟

تشير مذيعة التلفزيون السويسري لما ورد في “Tyll”، الرواية المرشّحة للقائمة القصيرة لجائزة البوكر البريطانية الدولية لعام 2020، وآخر عملٍ روائيّ لـ” دانييل كيلمان” الكاتب صاحب اللغة الألمانية الأكثر رشاقة، والأكثر نجاحا في الوقت الحاضر.

تُحوّر المذيعة في السؤال:

ما الذي نفعله نحن البشر مع كلّ هذه الدماء؟

يردّ ذو الـ 45 عاما، بشيءٍ من الارتباك الممزوج بالخجل والابتسامة:

الماضي لم ينته، مذابح الماضي، مذابح حرب الثلاثين عاما (1618 ـ 1648) في أوربا، مازالت حاضرة تُعلن عن نفسها في سوريا.

يسهبُ كيلمان:

مازالت سوريا تنهار. هنالك قوى غير عقلانية تستولي على السلطة في كلّ مكان. التنوير في الوقت الراهن يبدو في تراجع لحدّ كبير، على الأقل كسلطة سياسية. والحروب الدينيّة التي اعتقدنا أنّنا قد تغلّبنا عليها، تبرز فجأة أكثر من أيّ وقتٍ مضى.”

ثم يؤكّد مستدركا، أنّ الحرب في سوريا ليست حربا دينيّة، بل نزاعا على السلطة، كما خلفية حروب أوروبا، وُظّف الدين فيها لمآرب سياسية، وهذا ما نبذه في “Tyll”، ليُظهر المعتقدات الدينية التي وقفت وراءها، كنفاقٍ فاقدٍ لأيّة فعالية ولأيّ دورٍ بنّاء.

 

تقول إحدى شخصيات كيلمان في روايته” شهرة Ruhm” التي صدرت في عام 2009:

وجود الله لا يُبرّر

فطرح الأسئلة عن” الله” يترك لديه شعورا بعدم الارتياح، وهو يومئ لما ذهب إليه” غوتفريد لايبنيتز” الذي أوجد مصطلح” الثيوديسيا Theodizee” كناية عن العدالة الإلهية، محاولا تبرير وجود الله وجعله منطقيا والبرهان عليه حتى بالرياضيات، رغم كل العيوب الظاهرة في هذا العالم، ورغم مشكلة الشرّ وكلّ مظاهره السائدة في هذا العالم، التي تنفي عن الله صفة” كلّي القدرة “، الأمر الذي عدّه” ماكس فيبر” مشكلة اجتماعية مقارنة مع الحاجة الإنسانية.

فشل التفسير الديني الأخلاقي للعالم، فيُشير لما تقوله إحدى شخصياته في الرواية التي كانت منعطفا لشهرته، رواية” مسح العالم “، دامجا رأيه مع عالِم الرياضيات (غاوس):

لا يؤمن بأن هنالك يوم قيامة، فبإمكان المرء الدفاع عن نفسه في يوم الحساب ليردّ على الله بأسئلة مُحرجة يوم يُنادى المنادى، وهذا ما أعتقد به كذلك.”

سُئل إن كان يؤمن بوجود إله، فأجاب قائلا:

سأختار إجابة عالم الرياضيات والفيزيائي والفلكي الفرنسي بيير سيمون لابلاس: لا يحتاج المرء لهذه الفرضية. كان تاريخ العلم في آخر مائتي سنة سلسلة اكتشافات، تُظهر لنا أنّ العالم مربكٌ كثيرا وأنّنا مشرّدون فيه أكثر مما نودّ تصديقه”.

أظهر كيلمان، الطالب السابق في إحدى مدارس الكنيسة اليسوعية، زلزال التسونامي في عام 2004 الذي أودى بحياة أكثر من مائتي ألف شخص، لُتقرأ كعقابٍ إلهي (لا يؤمن به طبعا) يتكرّر من الله بحقّ خلقه من البشر، منذ حرب الثلاثين عاما وحتى اليوم في الحرب بسوريا.

الوصف عن الله في” شهرة Ruhm “، يرد على لسان شخصية أمٍ ترزح تحت المعاناة والألم، أما العمل ككل فهو تسع قصصٍ مستقلّة متداخلة لا التزام بالتسلسل الزمني لها، يتداخل فيها الواقعٍ المعاش مع الخيال، تؤكّد على التهديد الذي تتعرّض له البشرية بسبب التكنولوجيا الحديثة. عملٌ تغيب فيه شخصية البطل الرئيسي، تجري أحداثه في ألمانيا وسويسرا وأمريكا اللاتينية وآسيا، وأفريقيا.

غياب شخصية رئيسيّة، يوضحه كيلمان على لسان شخصية” ليو ريختر Leo Richter”، مخاطبا صديقته:

رواية بدون شخصيّة رئيسية! هل تفهمين؟ التركيب، العلاقات، المنعطفات، لكن ليس من بطلٍ للرواية، ليس من بطلٍ دائم”.

صُنّفت الرواية، لبنائها غير المعتاد، كأدبٍ ما بعد حداثي، ينظر للشهرة والحقيقة على أنّهما عابرتان، كحال هويّتنا الإنسانية التي تسرقها التكنولوجيا، فـ “فرانسوا رابليه” حذّر من الخراب الناجم عن” علمٍ من دون وازع “، وكيلمان الدارس للفلسفة أكاديميا، كأنّما يودّ الاستجابة لنداء هايدغر، لتفكّر الفلسفة أكثر مما يفكّر العلم.

يقول ليو ريختر:

نحن كامنون دوما في القصص. قصصٌ في قصص في قصص. لا يعرف المرء أبدا، أين تنتهي إحداها وأين تبدأ أخرى. تصبّ كلٌّ منها في الأخرى. تُفصلُ عن بعضها البعض فقط في الكتب، بدقّة وعناية”.

لاقى عمله هذا صدى كبيرا حتى رُبطت قوّة السرد لديه بالنثر الذي تميّز به الكاتب الأمريكي الراحل” ريموند كارفر Raymond Carver “، رائد القصة القصيرة بأمريكا في ثمانينيّات القرن العشرين، والذي وُصف بـ ” تشيخوف الأمريكي “.

أمّا” مسح العالم” فُحوّلت لفيلمٍ سينمائيّ، عرض فيها لنابغتين من القرن التاسع عشر في أوربا، كامتدادٍ لعصر التنوير، أقرب لأطروحة فلسفية، بسردها القائم على مزيجٍ من الأدب والفلسفة، بمسحة علمية.

تدور الرواية حول شخصيّتين رئيسيّتين هما” فريدريش غاوس” عالم الرياضيّات، و” ألكسندر فون هومبولدت” الرحّالة وعالم الطبيعيّات.

موضوعها عن العلم وغاياته، وعن أمريكا وسحر العالم الجديد، لكنّ الشيخوخة تحضر دوما في رواية تقارب روايات الخيال العلمي، بمقاربتها لتوجّهات المستقبل، واستشرافها للتطوّر العلميّ القادم، فيقول غاوس:

قريبا ستُبتكر آلات تحمل الناس من مدينة إلى أخرى بسرعة الطلقات

يورد هومبولت حكما تقييميّا للرواية:

كتابة الرواية هي أفضل السبل للإمساك باللحظة الهاربة من الحاضر لأجل المستقبل”.

تُرجمت الرواية لأكثر من أربعين لغة منها العربية، لترسّخ نجاح كيلمان، فهي الرواية الألمانية الأكثر نجاحا وانتشارا منذ نجاح رواية” عطر” لـ” باتريك زوسكند “. ولكاتب هذه السطور مقالٌ منشور سابقا، عن هذا العمل.

عُرف كيلمان كمحبٍّ وصديقٍ للعلم، ولذلك تستند بعض أسئلة اللقاء المترجم معه_ سيرد كجزءٍ ثان _ على هذه العلاقة الحميمة مع العلم.

رواية “Tyll”

يُظهر كيلمان مهارته في سرد أهوال التاريخ، فيبدأ بمشهد يرقص فيه “Tyll”، على الحبل كبهلوان ماهر، ليوصف سرد كيلمان نفسه بمهارة بطله في الرقص، الذي يرمي فردة حذائه اليمنى بين أرجل سكّان القرية، ثمّ يطلب منهم كلّهم خلع فردتهم اليمنى ليعثر على فردته، كأنّما يُخبرنا أنّنا جميعا ننتعل حذاء يخصّنا، وأنّنا كبشر حين بدأنا بانتقاء أحذية وملبس يغطّي عورتنا، فقد تخلّينا عن براءتنا، لصالح النزعة التدميرية فينا، وأنّ الإنسان قد انتهى، حين تمايز عن الحيوان العاري، وادّعى التحضّر، فالمشهد ينتهي بقدوم الجنود إلى القرية، ليذبحوا أهلها جميعا.

مشهد اقتحام الجنود لمدينة” ماغديبورغ Magdeburg” الألمانية، يأتي كتفصيلٍ للمأساة الألمانية في تلك الحرب.

اعتيادنا على الصمت عن المذابح يشجّع من يقترفونها على التمادي أكثر، فيقول جندي شارك في اقتحام المدينة:

افعلوا ما تريدون. المرء لا يستطيع القيام بشيء، إلا بعد أن يعتاد على إمكانية فعل ذلك حقّا. هكذا يتمّ الأمر، فيفعل المرء مع الناس ما يريد فعله.”

تجرّد الجميع من الحماية في ظلّ فوضى الحرب، ودجل الكنيسة آنذاك، والتشوّش وفقدان البوصلة، ليغدو مصير سكّان ألمانيا وأوروبا رهنا بمؤامرات بلاط الملك السويدي” غوستاف أدولف Gustav Adolf” و” ملك الشتاء Winterkönig “، ليُصبح للحرية معنى آخر:

من ينهب أو يقتل، لن يُساءَل. هذا هو ثمن الحرية “.

الألمان الذين يعيشون الآن على أرض ألمانيا، هم الناجون من مذابح تلك الحرب، مثلهم مثل ذلك الأب وابنه اللذين نجيا من الكارثة التي حلّت بالأرض في رواية ” الطريق ” للروائي الأمريكي ” كورماك مكارثي “، إذ ليس المهرّج الأحمق وحده من يغطّي المشهد، بل هناك قطّاع الطرق والسحرة والمشعوذون والجلّادون وضحاياهم والباعة المتجوّلون، وتجّار التوابل، كلهّم يحضرون في رواية كيلمان التي تعالج كارثة محدّدة، بينما أغفل مكارثي تسمية الكارثة في روايةٍ من روايات الخيال العلمي، تبدأ من زمن غير محدّد، بعد كارثة، قد تكون حربا نووية أو وباء.

أشار كيلمان لفيلم سينمائيّ استند على رواية للأمريكيّ الراحل” ريتشارد بورتن ماثيسون Richard Matheson “، وهو فيلم” أنا أسطورة I Am Legend” لـ “ويل سميث Will Smith”، يُظهر حطام مدينة خالية من السكّان بعد الكارثة، بينما يُظهر كيلمان القرى الزراعية وقد خلت من السكّان.

كيلمان قدّم لرواية” 1984” لـ ” جورج أورويل George Orwell ” في إعادة طباعة ألمانيّة لها، فذكر أن أورويل عاد فجأة، ليؤثّر بشكل كبير، بعد انتخاب ” ترامب ” وتتصدّر قائمة الأكثر مبيعا، رغم أن ما تعيشه أمريكا ليس هو ما يصفه أورويل في روايته عن كابوس الدولة الشمولية، بل استبدادا يُطلق عليه كيلمان وصف ” كليبتوقراطية Kleptokratie “، معتبرا أنّ ترامب يتّخذ من الرئيس الروسي ” بوتين ” قدوة مثالية له. أما الـ” كليبتوقراطية” فهي حكم اللصوص، تحكم فيه أقلّية مستبدّة، تسيطر على المال العام، بعيدا عن أية رقابة خارجية، تتراكم ثرواتها وسلطتها، على حساب المحكومين، واستخدم المصطلح لوصف الحكم في الاتّحاد السوفياتي السابق، روسيا، نيجيريا، والفلبين.

تتألّف الكلمة من مقطعين هما “كلبتو” وتعني اللصوص، و “قراط” وتعني حكم.

كيلمان اعتبر أنّ بروز رواية أورويل مرة أخرى لم يكن مفاجئا، فبعض الشخصيّات الروائيّة يمكن إعادة اكتشافها، حتى ممن لم يسبق لهم قراءتها، ومنها شخصية ” دونكيشوت ” لسيرفانتس، و ” موبي ديك ” للأمريكي ” هيرمان ملفيل “، و” شارلوك هولمز ” أو ” دكتور واطسون ” للإسكوتلندي ” سير آرثر كونان دويل “، أو ” بيتر بان ” الصبي الذي رفض أن يكبر للإنكليزي ” جيمس ماثيو باري “، فهي شخصيات غدت جزءا من الوعي الجمعي، لأنها أعمال تجاوزت زمنها، كما هي حال الشخصية الخيالية ” الأخ الأكبر ” في رواية أورويل ” 1984 “، المرادفة للتعسّف في السلطة.

يصف كيلمان رواية أورويل” 1984” بأنّها لا تُنسى لأنّها استطاعت وصف الكابوس بدقّة، بكثافة عصيّة على النسيان، لتلاحقنا بمأساويّتها أبدا، أظهر فيها أورويل أنّ الدولة الشمولية لا تصادر الحريات وحسب، بل وتعجز عن تحمّل الحقائق، وحتى علاقة حبّ لا يمكنها تقبّلها، لأنها تخلق ألفة بين شخصين تعجز عن اختراقها، فتقوم الدولة بإقناع وينستون سميث ليخون حبيبته جوليا، ويعود مؤمنا بالنظام بعد كفرٍ به.

يُبدي كيلمان إعجابه بتقنيات أورويل المتمثّلة في الصور والمجاز في البلاغة اللغوية، للإيحاء بما يتجاوز اللفظ الحرفي للكلمة لوصف الهياكل السياسية السخيفة، وكأنّها عودة للسريالية وما كتبه السريالي الفرنسي” رينيه ماغريت René Magritte” تحت الغليون الذي رسمه:

” هذا ليس غليونًا، بل لو أنّني قلتُ أنّه غليونًا سأكون كذّابًا”

فأورويل نفى وجود الحرّية بمعناها السياسي والفكري، ليذهب للقول إنّ” الكلب حرٌّ من القمل “، مشيرا للتمويه الذي تمارسه الدولة عبر تحوير الكلمات، فتدّعي” زيادة الإيرادات” كناية عن فرض ضرائب جديدة، وتدّعي” تحييد” بدلا عن” الرجم بالقنابل “، حتى تكوّن لدى أورويل أملٌ بقدرة البشرية على التحرّر، فالأمر لديه” يتعلّق باعتماد الفكر على الكلمات “.

يُظهر كيلمان احترافية في ممارسة النقد، فـ” ميشيل فوكو” كذلك، ربط بين غليون ماغريت وبين الحقيقة واللغة والخلل البنيوي للأفكار، وهو ما تُظهره حوارات وينستون سميث مع معذّبه في رواية أورويل.

كشف كيلمان أنّ الاسم الأولي لرواية” 1984” كان” الإنسان الأخير في أوربا “، قبل أن يحسم أورويل العنوان لاحقا لأسباب غير معروفة، لكنّه امتلك قدرة على استشراف المستقبل، فهتلر كان قد هُزم، لكنّ ستالين كان في قمّة جبروته في الاتّحاد السوفياتي.

والأمر الذي يراه كيلمان مدهشا أكثر، هو أنّ شخصية ” الأخ الأكبر ” شخصية خيالية لا يُعرف بالأساس إن كانت موجودة أصلا، على عكس شخصيات أورويل الأخرى في 1984، كشخصية ” ونستون سميث ” وعشيقته ” جوليا ” وشخصية القائم بالتعذيب ” أوبراين “، يكتنفها الغموض والضبابية، وليست هي من أثّرت لتصبح جزءا من الوعي الجمعي، بل تلك التقنيات الثقافية المستخدمة في الدعاية والتضليل، وقدرة أورويل على تكثيف اللغة كحامل لخطابٍ قادر على رسم صورة الاستبداد بالشكل الأمثل، حتى غدا مصطلح ” أورويلي Orwell haft “، دلالة على التضليل والتزييف، وهو لا يجانب الحقيقة في وصف أورويل الذي قال:

” لقد صُمّمت اللغة السياسية لكي تجعل الأكاذيب تلبس ثوب الحقائق، وتقتل ما هو جدير بالاحترام. “.

ليس المقام هنا عن أورويل، لكنّ الخطاب السياسي في أعماله يُعدّ من أهمّ ما يميّزه، فكتابه ” السياسة واللغة الإنكليزية ” يُدرّس حتى الآن في مدارس أمريكا، واللغة ” سيميوطيقا اجتماعية ” وأحد أشكال ” الممارسة الاجتماعية “، و” نورمان فاركلوف ” رأى الخطاب قائما على اللغة وسيروراتٍ سيميائية باعتبارها عناصر من الحياة الاجتماعية، وقادرة على إحداث تغييرات تربوية واقتصادية، وأورويل أظهر ببراعة في روايتيه ” مزرعة الحيوان ” و” 1984 ” كيف تقوم اللغة بترسيخ سلطة الدكتاتوريات الشاملة، وتحجيم أفق التفكير لدى مواطنيها والهيمنة عليهم، بلغتها الفاسدة.

وصف كيلمان بطل روايته، ليؤكّد على أنّها شخصية اختلقها لبناء روايته ولا وجود لها في الواقع، قائلا:

” “Tyll”، ذلك الذي لم يوجد قطّ

“Tyll” كان شخصا مغمورا، لكنّه كان شخصا فظّا رغم موهبته، والده بدا غريبا عن العالم، بينما والدته، فبالرغم من دفئها، خارت قواها من كثرة الولادات والإنجاب، وكلّ من ولدتهنّ ماتوا بين يديها، باستثناء “Tyll” الذي يُنقذ نفسه بالرقص، ليُشير كيلمان لقوّة الفن وقدرته في التغلّب على الظروف القاسية.

“Tyll” هو ابن الطحّان الذي يُعدم بحجّة ممارسة السحر والشعوذة، فيهرب برفقة ابنة خبّاز القرية، ليصبح مشعوذا و” مهرّج البلاط” لدى المنفيَين من بوهيميا الملك” فريدريش” والملكة” أليزابيت “، اللذين أدّى تتويجهما لحرب الثلاثين عاما. يجوب المهرّج البلاد كلّها، ليسرد كيلمان خلال تنقّله دراما الحرب، مستعينا بالقصص الشعبية، بمزيج من الحقيقة والخيال في رواية المعاناة والقسوة التي عاشتها أوروبا آنذاك، فيكرّر كيلمان قوله:

الأحمق يمكنه الذهاب لأيّ مكان “.

يربط كيلمان، في حواراته، بين هذه الشخصية وترامب، فعصر الباروك والعصر الحاضر دائما ما يتداخلان، وهذا جعله يعيش إحساسا غريبا بأنّ الزمن الذي تدور فيه أحداث روايته كان يقترب من زمن الحاضر، كلّما مضى في كتابتها.

أحدّ القرّاء الألمان ذكر أنّ في شخصيّة “Tyll” شيئا من كيلمان، ليس للدلالة على حبّه، كما ترامب، لاختلاق النزاعات، بل للدلالة على نجاحه في سرد فظائع الحرب الدينية عبر شخصية المهرّج، وبإتقان شديد.

حرب الثلاثين سنة

بدأت شرارتها مع الحادثة المعروفة بـ” نافذة براغ Prager Fenstersturz “، في الثالث والعشرين من أيّار 1618، بعد غضبٍ البروتستانت على الملك الكاثوليكي” ماتياس هابسبورغ Matthias Habsburg” الذي قلّص الحرّيات الدينية، فأثار حفيظتهم لخرقه اتفاقية” سلام أوغسبورغ” 1555، ليلجؤوا في بوهيميا إلى ما كان يُعدّ آنذاك تعبيرا عن إعلان حرب ضدّ الملك ماتياس، برمي نائبيه من نافذة قلعة براغ.

نجا النائبان من السقوط، لكنّ الحادث أشعل شرارة حربٍ أدخلت أوروبا في فوضى لم تنته إلا مع توقيع صلح نظر لأوربا ككيانٍ واحد لأول مرة وهو” صلح ويستفاليا Westfälischer Friede” 1648، أقرّ بحرّية التديّن والمساواة بين جميع المذاهب المسيحية.

كان السبب المباشر لهذه الحرب دينيّا، لكن حقيقتها تكمن في الصراع على الثروة والمصالح السياسية، عدا عن العامل الاقتصادي، فبعض القوى كانت تتنقّل في الموالاة بين أطراف النزاع وفقا لما يُقدّم لها من المتخاصمين، وإذ عجزت الأطراف عن إنهاء الحرب، لجأت للمطالبة بحقوقها الدستورية، متناسية الخلفية الدينية العقائديّة لصالح المصلحة السياسية والاقتصادية، لتتدخّل المصالح الخارجية لحسم الموقف، وهو الأمر الغائب عن الحرب في سوريا حتى الآن لوضع حدّ لانهيارها، بينما يعجز السوريون عن الوصول لتلك الهشاشة التي سمّاها محمود درويش ” نضجا ” في الحكمة، ليصلوا سالمين ولو متأخّرين.

رواية “Tyll” تحذيرٌ من القوّة التدميرية للدين، استعرض فيها كيلمان النموذج الأكثر سلبية لجاذبية الدين وسحره، وقدرته على استجرار العنف، حتى يومنا هذا، مؤكّدا أنّ الصلاة لا طائل منها لمنح الدين وظيفة فعّالة، فصلاة سكّان أوروبا لكل الآلهة والقدّيسين، لم تحمهم من الحرب والمذابح:

لقد صلّينا كثيرا لإبعاد الحرب. صلّينا لله سبحانه وتعالى ولمريم العذراء الرؤوم، ولسيّدة الغابة، وللمستضعفين في منتصف الليل. “.

كأنما كان الله في شوق للسلام على ضحاياه، لتروي دماء أكثر من ستّة ملايين شخص أرض ألمانيا، التي غدت أمام أزمة بيولوجية تمثّلت في ندرة الرجال مقارنة بالنساء، لتلجأ لتعدّد الزوجات، لخلق التوازن بين الجنسين، بمباركة من الكنيسة، وعودة لتعاليم العهد القديم.

الخلفية الفلسفية والميثولوجية لشخصية” Till-Eulenspiegel-Figur”

استعان كيلمان بحكاية شعبية أقرب للأسطورة، وهي” تيل _ مرآة البومة Tyll Eulenspiegel”.

أطفال ألمانيا وجامعو البوم يُدركون ما تعنيه حكاية” Tyll Eulenspiegel “.

يدلّ الاسم على أحد أشهر المهرّجين في أوربا، ويُستخدمُ بكثرة للتهكّم والسخرية، كما اسم جحا في العالم العربي.

وُلد المهرّج سليط اللسان في عام 1300م بمنطقة” كنايتلينغن Kneitlingen” وتحديدا بمدينة” أيلم Elm” التابعة لولاية ساكسونيا السفلى بألمانيا، وتوفي عام 1350 بمدينة” مولن Mölln “، وكان معروفا في برلين وبراغ ونورنبرغ وروما وبراونشفايغ، وله في مدينة” أيرفوت Erfurt” بألمانيا نصب تذكاري.

اسم” تيل Tyll” يُكتب كذلك بصيغتي” Till” أو” Dill “، ويوصف بالمخادع الجوّال أو المجنون أو المغفّل.

مع بداية القرن السادس عشر، ساد في أوربا نوع من الكتب الشعبية، يختصّ بتدوين أدب الشارع، تمّ تداوله بكثرة لرخص ثمنه.

وفقا لأحد الكتب من هذا النوع المسمّى في ألمانيا بـ” Volksbuch “، يعود تاريخه لعام 1510، فإنّ” تيل مرآة البومة Tyll Eulenspiegel” كان يحمل مرآة بيده، بينما تمكث بومة على كتفه، طالبا من الأغنياء أو أصحاب السلطة النظر لأنفسهم فيها، ليدلّهم على أخطائهم، فيتسبّب في ضحك المرافقين أو استفزازهم وغضبهم، لكنّ الأسطورة لم تستثن الأذكياء من مقالبه.

تُسمع مقالبه في معظم أنحاء أوروبا، فهو حين قدم من” براغ Prag” إلى مدينة”” أيرفوت Erfurt” أعلن عن قدرته على تعليم أيّ شخص القراءة والكتابة، فشكّك معلّمو الجامعة في المدينة بقدرته على ذلك، واشترطوا عليه بعد تفكير عميق، أن يعلّم أحد الحمير، فقبل التحدّي ولجأ لوضع كتاب في حوض العلف الذي يأكل فيه الحمار، واضعا بين كل صفحةٍ وأخرى بعض الشوفان، ليبدو الحمار وكأنّه يقرأ فعلا، لأنّ عليه تقليب الصفحات للوصول للشوفان وتناوله. بعد مضيّ أسبوعٍ واحد دعا المعلمين لرؤية الحمار الذي تعلّم بالتكرار كيف يصل للشوفان، وكان قد قام بتجويعه طوال ذلك اليوم، دون أن يضع الشوفان بين صفحات الكتاب هذه المرّة، ليهجم الحمار على الكتاب من فوره، عامدا لتقليب صفحاته بغية الوصول للشوفان، فخاطب” تيل” المعلمين:

انظروا كيف تعلّم الحمار في سبعة أيّام

أمّا المرآة فتحمل سمة الخداع، وعند اليونانيين تعني التعرّف على الذات في حالتها الفعلية، وهذا بالضبط ما كان يقوم به” تيل ـ مرآة البومة “.

البومة في اليونان القديمة كانت رمزا للمعرفة، واستعان هيغل بها في فلسفته، لكنّها في العصور الوسطى كانت ترمز لـ” طائر الشيطان “.

والمعنى المزدوج لرمزية البومة يلائم ما يقوم به” تيل ـ مرآة البومة “، فهو من جهة يحمل معنى روحيا يتمثّل في فضحه للناس وبالأخص من في السلطة، ومن جهة يحمل معنى شيطانيا تدميريّا، وصولا لـ” فاوست” غوته.

كمعنى آخر، فحمل المرآة أمام الناس يعني مطالبة بأن ينظّفوا مؤخّرتهم.

وردت هذه الشخصية في كتاب مغامرات الشاعر البلجيكي” تشارلز هنري دي كوستنر “.

في موقفه من أزمة اللاجئين اعتبر كيلمان أنه لم تكن هنالك مشكلة لاجئين، لكنّ السياسيين حوّلوها لأزمة للنأي بأنفسهم عن الالتزام الأخلاقي بمساعدة من بقي في سوريا من شعبها، لمساعدتهم على الاستمرار في الحياة.

اعترض كيلمان على تحالف مستشار النمسا” كريستيان كيرن” مع اليمين، محذّرا من دفع ثمن لذلك وهو ما حصل بالفعل، حيث انهارت الحكومة النمساوية بانهيار التحالف بعد انكشاف تحالف اليمين النمساوي مع بوتين.

أشار” فرويد” إلى التحريف المنهجي لحقيقة التعاليم الدينية، فالدين كان ومازال سببا للكثير من كوارث البشرية، وكيلمان فضح دوافع حرب الثلاثين عاما، مستعينا بالسخرية والجنون.

شوبنهاور اعتبر السخرية مرحلة أولى تمرّ بها الحقيقة، ثم كمرحلة ثانية تتمّ مقاومتها بعنف، لتصبح من المسلّمات في مرحلة ثالثة.

نيتشه رقص على الأشياء، لجبر انكساراته وتصعيد هشاشته المفرطة، حتّى وُسم بأنّه مجرّد أحمق، فنشد:

ومع ذلك فالحقيقة هي التي تنطق من خلالي. حقيقتي فظيعة، لأنّ الكذب هو الذي ظلّ يُدعى الحقيقة حتى الآن”.

أما زرادشت نيتشه فيقول:

كفانا كلاما عن هذا البهلواني، ودعونا الآن نراه. وإذا الشعب كله يضحك ساخرا من زرادشت، والبهلواني الذي ظنّ أنّ الكلام كان فعلا يعنيه، يشرع الآن في أداء عمله.”

بحث كيلمان لأكثر من ثلاث سنواتٍ في تاريخ العصور الوسطى، فوجد ضالّته في الحكاية الشعبية، التي منحته قدرة مراقبة الواقع بعيدا عن الفلسفة الكلاسيكية، وبعيدا عن التأمّل في سرد ملحمة حرب الثلاثين عاما، ورصد المخيّلة البشرية.

كيلمان لم يكن بوارد محاكمة العالم المسيحي، على إيمانه بخرافات كخرافتي التنّين والماموث وغيرهما، فآنذاك لم تكن هنالك خيارات ممكنة لهذا العالم، أكثر من الإيمان بالخرافة كعلمٍ وحيدٍ سائدٍ، وبالتنّين كأحد العلوم، وبالسحر والشعوذة، بغياب النظرة العقلانية للعالم، فكانت الكنيسة تغري ” المؤمنين ” برواياتها عن التنّين مرفقة بموسيقا أكثر جذبا تبتّها الكنيسة.

تكمن الغرابة في أنّ هنالك من ينظر للتنّين كعلم وحيد حتى الآن، ليس في أوربا، بل في العالم الإسلامي، فالكنيسة حُيّدت عن مجتمع الحداثة وما بعدها في أوربا، وغدت اعتقادا شخصيا فقط، تكفله حرّية الاعتقاد.

ملاحظة:

باستثناء اقتباسين من” مسح العالم “، فجميع الاقتباسات المتعلّقة بدانييل كيلمان وأعماله، من ترجمة كاتب هذه السطور، وهي مستقاة من حوارات ولقاءات صوتية ومكتوبة. اقتباسات أورويل وغيره ترجمات متداولة. تلي هذا الجزء ترجمة لقاء مع دانييل كيلمان من الألمانية.

نُشر المقال في موقع الصدى نت، والرابط إليه هنا.

 

الكاتب الألماني دانييل كيلمان : عمّا قريب ، سيصبح ترامب من التاريخ ج2

 

ترجمة: عبد الحميد محمّد

الكاتب النجم” دانييل كيلمان Daniel Kehlman” ينالُ منه القلق حول الحرّيات المدنيّة، ولكن مع ذلك فالألماني الآن يتحلّى بالكثير من الشجاعة.

ـ دانيال كيلمان الذي احتُفي به في الولايات المتحدة الأمريكية، كصاحب المؤلّفات الأكثر مبيعا.

بدأ عام 2020 ممتازا لدانييل كيلمان، فقد أُحتُفي بروايته” Tyll “، في أمريكا. ككاتب يكتبُ بالألمانية اختُيرت روايته ضمن القائمة القصيرة لجائزة البوكر البريطانية الدولية. كان كيلمان (44 سنة)، يعيش مع عائلته، في مدينة نيويورك حين أدخلت الكورونا العالم في حالةٍ من الجمود. الآن يقوم بما يُتقن فعله: الكتابة. لدى دانيال كيلمان مكالمةٌ عبر الكمبيوتر، والساعة تُشير للعاشرة صباحا بحسب توقيته.

سؤال:

تكتبون مسرحية حوارية، تُدعى” حوارات ـ كورونا “، تلك التي يقول فيها الكاتب المُتخيّل” كلاوس فيرنر فنكين هنريش Klaus-Werner Wenken-Henrichs”، بأنّ الفيروس كان” وقتا للتفكير والتأمّل “. هل هو كذلك لكم أيضا؟

جواب:

بالنسبة لي شخصيّا، هو كذلك جزئيّا. تركنا أنا وزوجتي وابني السكن بوسط مدينة نيويورك في منتصف شهر آذار، لنستأجر منزلا صغيرا بالقرب من المحيط الأطلسي، في” مونتاوك Montauk” الواقعة على اللسان الممتد” إيسلاند Island “. كثيرا ما نذهب للتنزّه على الشاطئ. أُمارسُ القراءة كثيرا وكذلك الكتابة. لكنّ الوضع العالمي بالمجمل يُحزنني كثيرا. نحن غارقون في إحدى أكثر أزمات البشرية حزنا. ليست الأسوأ لكنّها الأكثر حزنا، ذلك أنّ الشفاء يكمن في بقائنا بعيدين عن بعضنا البعض. من كائنٍ للعقل والحرّية والجمال والإثارة، غدا (الإنسان) كائنا حاملاً للأمراض، يبصق الفيروسات. لكنّ ما يُقلقُني أكثر: كيف سنخرجُ من هذه الحال؟ إن نحن ارتدينا الكمّامات، عند التسوّق، لسنوات، فهذا سيكونُ مزعجا، لكنّه مع ذلك سيكون مشكلا تافها، مقارنة بالاعتداء على حقوقنا الأساسيّة.

سؤال:

قبل سنتين وسمتُم ترامب بـ ” الكارثة العظيمة “، وقلتُم إنّكم تشعرون في نيويورك، وكأنّكم قريبون من مفاعل نووي. الآن يقع منزلكم في واحدة من أكثر بؤر التوتّر سوءا؟

جواب:

لأنّ روايتي” Tyll” نُشرت في الولايات المتّحدة الأمريكيّة، فـقد سافرتُ كثيرا في شهريّ شباط وآذار، إلى الساحل الغربي على سبيل المثال. في شباط طرتُ إلى انكلترة. في بداية آذار إلى فرنسة. إنه أمرٌ مدهش أنني لم أمرض، وأتساءلُ إن كنتُ أنتمي إلى تلك المجموعة التي تحمل الفيروس دون ظهور أعراض عليها، وهو ما بات كلّ منّا يتمنّاه، بطبيعة الحال، فهذه المجموعة غدت فجأة كنادٍ هو الأكثر تميّزا في العالم. تلك الرحلات التي لم يسبق لي وأن تخلّفتُ عنها طويلا، تبدو لي وكأنّها تنتمي لحقبة أخرى. لترد بعدها الأخبار المفجعة من إيطالية وما أدّت إليه من إغلاق، ثم بعد ذلك وردت أخبار الإغلاق في إسبانية، ثمّ فرنسة فالنمسة. هذا كان مُرعبا بالنسبة لنا، فالأمريكيّون معروفون بشكل خاص بميلٍ لردود الفعل المُبالغ بها، حال نشوب خطر. خرجنا من نيويورك لأنّنا كنّا خائفين من سنّ قيودٍ متشدّدة جدّا. في إسبانية على سبيل المثال لم يُسمح للأطفال بالخروج من منازلهم طوال ستّة أسابيع، وهذا ما يجب تخيّله، لكن هذه القيود في أمريكا، لم تكن بذلك القدر الذي كانت عليه في إسبانية.

سؤال:

وبناء عليه، نصح ترامب بحقن مواطنيه، بالمطهّرات؟

جواب:

يُدرك العالم، قبل كلّ شيء، حقيقة التضليل الذي يمارسه ترامب في موجزاته الصحفيّة المجنونة. لكن ما حدث في نيويورك، هو أنّ الحاكم” أندرو كومو Andrew Cuomo” برهن بوضوح، وبشكل استثنائي، على عقلانيّته. اقترح ترامب إغلاق المدينة، كما في مدريد وباريس. كومو حسم ذلك في غضون ثلاث ساعات، في لقاء مع قناة CNN: لا يمكن منع الناس من حرّية التنقل، فهذا سيكون ضدّ الدستور. كان جميلا سماعُ أحدٍ ما يتحدّث فجأة عن سيادة القانون. تولّى الحكّام دفّة المسؤولية، في جميع أنحاء البلاد، والإجراءات في الكثير من الولايات الأمريكية لم تختلف كثيرا في النهاية، عن تلك التي اتُخذت في ألمانيا. ارتفع منحني المرض في نيويورك بشدّة، لكنّه عاد لينخفض مرة أخرى. انخفضت سلاسل العدوى الشهيرة (يقصد المنحني الأسي في انتقال عدوى الكورونا) إلى ما تحت الـ 1، كما في ألمانيا. في تلك الأثناء كان الوضع في المستشفيات كارثيا، لكن حال المدينة بالمجمل لم يكن مأساويا، كما كان عليه في أوربا.

سؤال:

كيف تنظر للأمر؟

جواب:

بعض الصور التي بُثّت من نيويورك وانتشرت في العالم، أدت لسوء فهم. على سبيل المثال، هذه الخيمة المستشفى في السنترال بارك، قدّمتها منظمّة دينيّة متخصّصة ببناء المستشفيات الميدانية في أفريقيا، لصالح مدينة نيويورك، منذ البداية، من باب التحوّط، لكنّها لم تُستخدم مطلقا. كذلك صور التوابيت التي زُعم أنّها كُدّست في ثلّاجات الموتى، بهدف دفنها في مقابر جماعيّة. واقع الحال، هو أنّ الجنازات لم تكن ممكنة باحتشاد الأهالي، بسبب الحظر المفروض على التواصل. ولذلك فقد تمّ ـ إذا جاز التعبير ـ تخزين الموتى، إلى أنّ يُصبح ممكنا نقلهم للمقابر. لا تفهمني حطأ: هذا أيضا كان شنيعا. لقد اتّصل بي كثير من الناس من ألمانيا، من أولئك الذين لم أسمع عنهم شيئا منذ عشرين عاما، يسألونني عمّا إذا كنّا نودّ الخروج من نيويورك” قبل أن ننجح في الخروج “. حسنا، ما الخطب؟ أعتقد أنّ كثيرين طاردتهم رهبة الخوف، تتراءى أمامهم الصور الهوليووديّة المروّعة. نعم في السينما غالبا ما تغرق نيويورك، في موجات المدّ، الوحوش، الزلازل. كثيرون ممّن كتبوا لي بذات القلق بالبريد الإلكتروني، خالوا في الواقع أنّني كما “ويل سميث Will Smith” في فيلم” أنا أسطورة I Am Legend”، أمشي مع كلبٍ بين الحطام. نحنُ نعيش في ظلّ أزمة الكورونا استدعاءا متكرّرا غريبا للصور. لكنّ الصور لا تساعد على فهم الحالة عن بعد، لا في “برغامو Bergamo” ولا في “نيويورك New York”. وحدة العناية المركّزة تبدو دائما مرعبة. خارج نطاق المشافي غدت المدينة هادئة.

سؤال:

ولكن إذا كان انتخاب ترامب يُعدّ” كارثة عظيمة “، فماذا يعني تفشيّ الوباء في ظلّ حكم الرئيس ترامب؟

جواب:

ترامب يُسيء لنفسه بتصريحاته الفاحشة الآن. يتضاءلُ معدّل تأييده حتى لدى ناخبيه الأساسيين، فهو يميل في كلّ الولايات الساخنة حسب الاستطلاعات لصالح” جو بايدن Joe Biden”. اقتصاديّا، ستحلّ أوقاتٌ عصيبة صعبة على أمريكا، لكنّني متفائل بأنّ ترامب سيخسر في شهر تشرين الثاني القادم، لأنّ كثيرين من أنصاره، يُدركون الآن كم هو رئيس كارثي. أعتقد أنّ ترامب، عمّا قريب سيغدو من التاريخ.

سؤال:

في رواية” مسح العالم “، كتبتم عن “فريدريش غاوس” و” ألكسندر فون هومبولدت”. في” Tyll” واكبتم الموسوعي “أثانيسيوس كيرتشر Athanasius Kircher”. كصديقٍ للعلم لابدّ أن تجذبكم شخصيّة عامة من علماء الفيروسات.

جواب:

بكلّ تأكيد. أنا ممنونٌ جدّا من (كريستيان دروستين Christian Drosten) لأجل بثّه الصوتي واليوميّ، الذي لم تفتنا منه ولو حلقةٌ واحدة، أنا وزوجتي. لا مكان آخر بخلافه، في هذه الأيام، يمكن فيه للمرء أن يتلقّى هذه الشروحات الجيدة. بمعزلٍ عن ذلك: فحين يتعامل المرء ولو قليلا مع فلسفة العلوم، سيُدرك أنّ العلم وسيلةٌ لا مؤسّسة. العلم قبل كلّ شيء مبنيٌّ على التفنيد (Falsifikation)، ولذلك فالأمور تبرز وكأنّها أخطاء. إنّ العلماء غالبا ما يكونون على خلافٍ فيما بينهم، وهنا بالضبط تكمن قوّة منهجهم. لكنّ ما يُعقّد الأمر هو أن يدّعي السياسيون في ذات الوقت أنّ قراراتهم ليس من بديل لها، لأنّها قائمة على العلم، ذلك أنّ هؤلاء السياسيّين قد اختاروا بشكلٍ مسبق، من هم أولئك العلماء الذين يستأنسون بهم.

سؤال:

هل تطالبون بتخفيفٍ أسرع للقيود؟

جواب:

لا أودّ التقليل من شأن الفيروس. أنظر للخطوات السريعة الحاسمة بعد ظهور الكورونا على أنّها صائبة. يجب أولا معرفة المزيد عن التهديد. أمّا النقاش حول الانفتاح التدريجي وإلغاء الإجراءات المعمول بها، فباعتقادي أنّ من الضروري فعل ذلك. على كلّ حال، فالأمر يتعلّق بالقيود الأكبر المفروضة على الحقوق الأساسية منذ الحرب العالمية الثانية. يجبُ عليّ دوما أن أتمعّن في أحداث الحادي عشر من أيلول من عام 2001. كان هجوما إرهابيّا فظيعا خلّف المزيد من القتلى، وكارثة يجب التعامل معها بردٍّ ما. ولكن في نهاية المطاف كانت الاستجابة وخيمة العواقب: منظومة باتريوت وغوانتانامو، ومن ثمّ الحرب في العراق. بدعم جزء كبيرٍ من السكّان تمّ فرض قيودٍ متشدّدة على الحقوق الأساسية، منها الكثير مما لم يتمّ رفعها حتى الآن.

سؤال:

هل تتخوّفون، من أن لا عودة بعد الآن؟

جواب:

المجتمع لا يتقهقر رجوعا لما خلف الذي حقّقه من تقدّم. عندما أنظر لأوربا، تتبادر لذهني استطلاعات الرأي العالية المؤيّدة لما أغدق به علينا السياسيّون، حين قدّموا أنفسهم لشعوبهم، كمعلّمين يتّسمون بالصرامة والدقّة. لقد شهدنا في كلّ مكان، نماذج فضفاضة للتعبئة الوطنية: يُسمح للمرء بأن يشعر بنفسه، كشعبٍ يتّحدُ ضدّ الخطر، وفي حقيقة الأمر ليس عليه إلّا أن يعمل للبقاء في المنزل، يتابع” Netflix “. إنّها حقيقة بسيطة جدا، وهي أنّه ليس من أحد الآن ممّن يحكموننا، بمتحمّس بتلك الشدّة للتفكير بخطّةٍ واضحة للخروج ـ ذلك أنّه من الممكن أن يُعدّ مسؤولا عن تزايد أعداد من تنتقل إليهم العدوى مرّة أخرى. لكن من يعلم متى سيتمّ توفير لقاحٍ ما؟ وفي كلّ الأحوال، يتوجّب علينا كمجتمع أن نجد طريقا، للتعايش مع خطرٍ متنامٍ بشدّة.

سؤال:

ما الشكل الذي يمكن لحياتنا أن تبدو عليه؟

جواب:

أعلم أنّ هنالك ردود فعلٍ ارتداديّة تعتبر الطريقة السويديّة خاطئة. لكن ما حقيقة ذلك؟ لم يدّع السويديّون أنّهم سيتغلّبون على الفيروس، وأنّ الحياة العامّة والاقتصاد سيبقيان لأقصى حدّ ممكن تنبضان بالحياة، ما سيؤدّي بشكلٍ حتميّ لارتفاع أعداد الموتى أكثر مما لدينا. بل إنّهم كانوا من أوائل من قالوا: لربّما علينا التأقلم طويلا جدا مع الفيروس. وبطبيعة الحال، فإنّ ذلك قد يُلزم الكثير من السويديّين على العيش منعزلين بمفردهم. لكنّني حين أتأمّل هذا الأمر، وما سيبدو عليه المستقبل، فإنّني أورد النموذج السويدي أو ديستوبيا مريرة (ديستوبيا Dystopia أي أدب المدينة الفاسدة أو الواقع المرير)، مجتمعٌ خاملٌ معزولٌ في حدودٍ مغلقة، استنزافٌ حادّ لطاقاته، مع قلقٍ مستمرٍّ، في انتظار الإحاطة الإعلامية القادمة. لا أدّعي أنّ حياتنا بإمكانها أن تستمرّ هكذا ببساطة مع المرض. غير إنّها بالفعل يجب أن تستمر بطريقة ما، وبالنسبة لي فليس هنالك من بدائل مقبولة، عن حريّاتنا الأساسيّة التي في نهاية المطاف مات لأجلها أناسٌ كثيرون، وهكذا على المدى الطويل يتم تقييدها. نحن نعتاد على كلّ شيء بسرعة، وكذلك على القيود المفروضة على الحرّية.

سؤال:

ترون من” مونتوك” الجميلة، هذا المكان الباعث على الحنين، الذي سبق وألهم (ماكس فريش)، قاتم تماما.

جواب:

بالمقابل فنحنُ نواجه خطرا حقيقيّا. أعرفُ الكثير من الناس، ممّن أصيبوا بالكورونا، لكن ولحسن الحظّ فقد تعافوا جميعا وعادوا أصحّاء مرة أخرى. لكن سارت الأمور بصعوبة كبيرة بين دائرة أصدقائي. هذا الفيروس ليس مزاحا. لديّ رؤية مزدوجة للأمر. أرى الكثير مما يحثّني على الشجاعة: هذا التضامن الاجتماعي مع الضعفاء ومع المهدّدين بشكل خاص من شأنه أن يجعلنا فخورين. هذا ما يمكن النظر إليه كرقيٍّ أخلاقيّ. ثمّ تنقلب الصورة، لأرى صورة ديستوبيّة (مريرة) للعالم، من الممكن أن تبقى هكذا دون صعوبات. عالمٌ يتمّ فيه إلغاء كلّ التجمّعات الاجتماعية الكبيرة لأنّها هي الخطر بحدّ ذاتها، المسارح، الحفلات الموسيقيّة، المظاهرات. وفي الواقع لفترة زمنيّة غير محدّدة، على أمل دائم بتوفير لقاح ما، وهو ما لم يتم الوصول إليه بعد وبعد. عالمٌ يعمل فيه الناس منفصلين من منازلهم ويستدون طلباتهم على الأمازون، والحياة العامة لا تجري إلا على الشاشات. وبطبيعة الحال أيضا عالم، تتمّ فيه مراقبتنا دوما عبر تطبيقات التتبّع، في كلّ مكان، لأنّ الفيروس يكمن لنا في كل مكان غير آمن، فكلّنا ناقلون للعدوى.

سؤال:

عالم كهذا، هل يمكن تصوّره باستمرار؟

جواب:

عندما نقرأ اليوم، أنّ” شكسبير” كان يعرض مسرحياته أمام آلاف الناس، دون أن يكون هنالك مرحاضٌ للعموم، فهذا يفوق التصوّر. كان الناس يقضون حاجتهم حيث يقفون. هكذا بكل بساطة. مفزع. مثلا كيف يمكن للمؤرّخين أن يتحدّثوا عن مراحيض “Dixie-Toiletten” (ترتبط باسم جو ديكسي الألماني من موسيقا الروك، وهي القابلة للنقل) لأجل عشرة آلاف في مهرجان موسيقا الروك” Rock am Ring “؟ ربّما بسبب الخوف. أو لستمائة شخص مجتمعين في عرض مسرحي. مرعب! ليس من الصعب تخيّل أيّ شيء كمسبّب للعدوى، وعمليا نعم هذا ليس من الخطأ. قبل ستّة أسابيع لم يكن بإمكاننا تخيّل ذلك، طوال ستّة أسابيع لا أصدقاء التقوا فيها. لكن إن جرت الأمور بشكل جيد، لستة أسابيع، فلربما امتدّ الأمر لعام؟ لعامين؟ لربما غدت الشاشة مستقبلا معيارا لكلّ لقاء. كما قلت يمكن للمرء التعوّد بسرعة. الإنسان نظام مفتوح.

سؤال:

ما الذي يمنحكم الأمل؟

جواب:

اللجوء للتفكير المجرّد يساعد بطريقةٍ ما. وهذا هو المحمود في الفلسفة: إنّها تعلّمنا، أنّ الحقوق الفردية يجب ألا يتوقّف أمرها على التسلّط الفردي أبدا. ولذلك فإنّه بالنسبة لي، ليست تمثيليّة هزليّة تافهة، أنّ تغرّد الشرطة البافارية، في هذه الأثناء، على التويتر، لتعلن أنّه لن يكون مسموحا قراءة كتاب على مقاعد الحديقة. الشيء الوحيد الذي يحميني من تسلّط الشرطة هو القانون. الكثير من القواعد المعمول بها حاليّا هي تعسّفية بشكلٍ كامل، وبعضها حتى غير منطقيّة. الناس مطالبون بالحفاظ على المسافة فيما بينهم، لكن لا يُسمح لهم بارتياد منزلٍ ثان لهم في البلاد، إلا إن كان هذا المنزل يقع خارج ولايتي (مكلنبورغ فوربوميرن Mecklenburg-Vorpommern) أو (شيلزفيغ هولشتاين Schleswig-Holstein)، الأمر الذي أدّى إلى تنشيط المحاكم في تلك الأثناء، بهدف إلغاء الكثير منها.

استنادا على فكرة” سيادة القانون” تمّ تأسيس أمريكا، ومازال هذا العرف بكل بساطة قويّا، أكثر مما هو عليه في ألمانيا، وهو ما يمكن ملاحظته أيضا في فرنسة، حيث يتحدّث الرئيس عن حرب، والخروج في نزهة يحتاج لتصريحٍ خطيّ. أحد عواقب التشكّك في سلطة الدولة الأمريكية، يمكن رؤيتها في الصورة المشهورة الآتية من مدينة (دنفر Denver، عاصمة كولورادو) ……

سؤال:

ما مدى القلق الذي يعتريكم بشأن صناعة الكتب؟

جواب:

هذا ما أجد صعوبة الآن في إعطاء حكم عنه. في البداية كان البعض متفائلين بأنّ الناس سيجلسون في منازلهم، وسيمضون جلّ وقتهم في القراءة، لكن هذا ما لم يحصل. الناس يمكثون في المنزل، ويتناقلون البيانات في الحواسيب. ليس من السهل التركيز في هذه الأوقات. مبيعات الكتب تنخفض بشكل كبير. ينالُ مني القلق قبل كلّ شيء على المتاجر الصغيرة لبيع الكتب، بالإضافة للمطاعم، والمشاريع المتوسّطة. وكذلك على مجمل المشهد الثقافي. في النمسا أدلت القائمة بسكرتاريا الدولة هناك، بمؤتمر صحفيّ، تحدّثت فيه عن الممثّلين وعن مدرّبيهم. لم يُفهم ما كانت تعنيه بالضبط. غالبا كانت تتحدّث عن المدراء. مؤسفٌ أنّ مصير الثقافة بات الآن بأيدي أولئك الناس، الذين لا يمكن للأجنبيّ الغريب أن ينتمي للثقافة لديهم. ومن هؤلاء سأذكر السادة من معهد روبرت كوخ.

ليس بالضرورة أنّ مستقبل قطّاع النشر أيضا يتعلّق بذلك الرقم المجرّد لسلاسل العدوى، الذي يُدلي به العاملون في معهد روبرت كوخ، بطريقة ما يوميّا. هي تقرّر الآن فيما إذا كان بإمكان متاجر الكتب أن تبقى مفتوحة أم ستعود لتُغلق مرة أخرى. في الواقع نحن نشتري جزءا كبيرا من الكتب ليس عبر الأمازون، الرابح الأكبر من هذه الأزمة.

سؤال:

الحجر الصحي يبدو لكم ككاتب أمرا جيدا؟

جواب:

نعم بالطبع. أكتب كثيرا جدا. وأعمل مع (جوليان شنابل Julian Schnabel) الذي يسكن قريبا من هنا، في كتابة سيناريو. علاوة على ذلك أكتب هذه المشاهد الصغيرة عن الكورونا، حول الأزمة، شخصيّة، ساخرة. إنّها استراتيجية التأقلم التي تخصّني. كما أنني أعمل على كتابة رواية جديدة. بالنسبة لي عدم السفر والبقاء في مكانٍ ما هو أمرٌ جيد، فالتنزّه طويلا، ورؤية عددٍ قليلٍ من الناس ليس أمرا سيّئا للكاتب.

سؤال:

ما هي المدّة التي استأجرت لأجلها هذا المنزل في مونتوك؟

جواب:

لغاية بداية حزيران. حين ينتهي العام الدراسي، فنحن بكل الأحوال نريد السفر لألمانيا. هناك ينبغي أن نبقى في الحجر لمدة أسبوعين، وهذا أجده مفيدا عمليا. ما لا أجده بدون معنى هو استمرار إغلاق الحدود الأوربية. السياسة لم تشرح قطّ: ما التأثير وما الفائدة؟ إذا قدّمت جمعية (Helmholtz-Gesellschaft) نموذجا يتضمّن الإغلاق لخمسة أسابيع أخرى، إلى ننتصر بعدها على الوباء في ألمانيا، وهذا يعني أنّه وإلى أن يتم إيجاد لقاح في فترة زمنية غير محدّدة، فإنّ الحدود الألمانية يجب أن تبقى مغلقة؟ وهذا ما سيولّد خسارة فظيعة لبايرن المغلقة. يمكنني الجزم مسبقا أنّ السيد زودر Söder (رئس وزراء مقاطعة بافاريا) لن يرى ضيرا في ذلك. فهو قد رفض للتوّ حتى إعادة فتح الحدود مع النمسة، مع أنّ أعداد المصابين بألمانيا أعلى مما هي عليها في النمسة، فهو حسم أمره استنادا على اهتمامه بالصحة، ولم يبالِ مطلقا بصناعة السياحة البافارية. لا هذا غير مقبولٍ بالنسبة لي.

سؤال:

هل تعتقدون أنكم ستعودون للسفر بحرية، كما كان في شهر آذار؟

جواب:

أعتقد أنّ هذا يتعلّق بما إذا كنّا سنحصل على لقاح. يجب هنا التمييز بين الحقوق والسلوك. الحدود يجب إعادة فتحها، ولا يجب نسيان الحقّ في اللجوء، الذي يشمل أيضا الحقوق الأساسيّة، التي غابت فجأة وبالكامل عن النقاش الآن. وبغضّ النظر عن كلّ شيء، فلن يُضير إنّ نحن جميعا سافرنا أقلّ قليلا مماّ كان ذي قبل.

سؤال:

ولكن هذا الوباء منعكم نوعا ما من التحليق (يُقصد به الظهور الإعلامي). “Tyll” لاقت في أمريكا صدى كبيرا.

جواب:

يا للخسارة. لقد كنتُ محظوظا مع التوقيت. روايتي” Tyll” تمّ تناولها بالنقد والمراجعة، قبل أن تلجأ الصحف للكتابة عن الكورونا فقط، وكنتُ وقتها قادرا على المساهمة في جميع الفعاليّات عنها. لكن أحد الجوانب المتعلّقة بـ “Tyll “، التي تمّ التركيز عليها آنذاك بشكلٍ غير كافٍ في ألمانيا، عاد ليبرز مرّة أخرى: الرواية تدور أحداثها في زمن الطاعون، الذي كان حينها وباء عالميّا. هذا غدا فجأة مرة أخرى موضوعا راهنا.

سؤال:

لقد استقصيتم طويلا عن سنوات الطاعون. لأيّ مدى يجب عليكم التفكير في الوباء الراهن؟

جواب:

لو أنّ المرء عكف على دارسة الطاعون باستفاضة، سيُدرك كم كانت الأمراض، فيما مضى، تبعث على السخط والاشمئزاز، لفظاعتها. يبلغ معدّل الوفاة بالكورونا قرابة 0,5%، وهذا كثير، لكنّ مع الكوليرا كانت قرابة 50%، وفي الطاعون وصلت لغاية 70%. بسبب ما سُمّي بـ” إنفلونزا هونغ كونغ” مات في عام 1968 حوالي مليون شخص ـ على المرء أن يتخيّل، كيف كان سيبدو عليه العالم اليوم، لو تمّ إلغاء” صيف الحبّ Summer of Love*” آنذاك، وتمّ إخضاع كلّ شيء للإغلاق قانونيّا. التاريخ يُظهر لنا، كيف يمكن للوباء أن يغيّر سريعا وفعليّا مسار كلّ شيء. إلا أنّ الطاعون لم يكن بإمكانه أن يقضي على وجودنا، بل إنّه نقلنا لعصر النهضة. أشكّ في أنّ بإمكان Covid-19 أن ينقلنا لشيء مشابه مقارنة بذلك، في تأثيره. ولكن هنالك ما يبعث على الاطمئنان، حين نعرف أنّ الناس وفي ظلّ انتشار الطاعون واصلوا حياتهم الاعتيادية الطبيعية بشكلٍ أو بآخر. في نهاية المطاف، فنحن البشر جنسٌ صامدٌ مقاوم.

 

صيف الحب Summer of Love: علامة فارقة في عقد ستينات القرن العشرين مع تطور حركة الهيبيز ودخولها في الحركة الثقافية العامة، وانطلق من مدينة (سان فرانسيسكو) تحديدا، حيث تدفق ما يقارب 100 ألف شخص، في عام 1967، على أحد أحياء المدينة، وهذا ما كان إيذانا بتغير وتحوّل ثقافي وسياسي.

 

ترجمة عن الألمانية: عبد الحميد محمد

 

الكورونا ليست” بجعة سوداء” جزء أوّل



عبد الحميد محمّد

جزء أوّل

عبد الحميد محمد/ سوريا

كنتُ قد قرأتُ كتاب” البجعة السوداء، تداعيات الأحداث غير المتوقّعة “، للأمريكي من أصل لبناني” نسيم طالب Nassim Nicolas Taleb” منذ سنوات عدّة، وهو بالأساس كان قد صدر في ترجمته العربية عام 2009، عن” الدار العربية للعلوم ناشرون” ببيروت، وبترجمة” م. حليم نسيب نصر “.

ومع حالة الذُعر والاستغراب والدّهشة التي أصابتنا جميعا، مع وباء الكورونا الذي ترك بانتشاره الواسع في عالمنا المتطوّر تقنيّا وعلميّا لدرجة مذهلة، حالة أشبه بالعجز لدى معظمنا، ونحن نحاول العثور ولو على خيطٍ ما، يُمكننا من خلاله الإجابة، على سؤالٍ بات على ألسنة الجميع، ومفاده:

ـ ما الذي يحدث للعالم؟ حتى يستشري فيه وباءٌ بهذا الحجم، ويبدو عاجزا عن إيجاد دواءٍ أو عقار فعّال لمواجهته؟

وبحثا عن إجاباتٍ مُقنعة، أعدتُ قراءة هذا الكتاب، وقد تغيّر العالم بدرجاتٍ ودرجات عمّا كان عليه حين صدروه، لعلّ أهمّها أنّ” دونالد ترامب” لم يكن آنذاك قد وصل للرئاسة الأمريكية، والحرب السورية لم تكن قد لفحتنا نارها بعد.

مع إعادة القراءة، تفاجأتُ بمقالٍ مشترك لنسيم طالب وأمريكيّ آخر، يٌنشر في الصحافة الألمانية، مترجما عن الأصل الإنكليزي في الصحافة الأمريكية.

قرّرتُ حينها الكتابة عن هذا الكتاب كجزءٍ أوّل، وترجمة المقال الجديد (من اللغة الألمانية) كجزءٍ ثانٍ مُكمّل، لكن سيتّضح للقارئ بسهولة أنّ الأمر لا يتعلّق بالترجمة فقط، وكذلك لا يتعلّق بمضمون الكتاب وفحواه فقط، بل إنّه أُدمج بمطالعاتٍ شخصيّة أخرى، وبرؤى شخصيّة، ومقاربات فلسفيّة أخرى (كالحديث عن فلسفة ديفيد هيوم مثلا وكذلك فلسفة برتراند راسل).

الكتاب يملك قدرة إمدادنا ببعض الذخيرة المعرفيّة التي قد تًسهّل علينا العثور على بعض الإجابات، مع أنّ مؤلّف الكتاب يؤكّد محقّا أنّ ” العجرفة المعرفية ” تحديدا، هي التي تكمن وراء كثيرٍ من الصدمات والأوبئة التي تُصيب عالمنا المعقّد هذا، والثقة المطلقة التي ينطلق منها فلاسفة وعلماء وأطبّاء، في ادّعاء ما يكفي من المعرفة والقدرة على استقراء الماضي واستشراف المستقبل، إلى أن يحدث ما يُنفي هذا الادّعاء ويُنسفه كاملا.

”يورغن هابرماس” الذي ترجمتُ له حوارا، نُشر قبل هذا المقال، اعترف بمحدودية قدراتنا، بل وذهب إلى أنّ معرفتنا بدت الآن جهلا وقلّة حيلة مع ظهور الكورونا، والوباء لا يمثّل إلا أحد تعقيدات عالمنا المعاصر. كذلك فعل نسيم طالب في كتابه وفي مقاله الجديد أيضا، لكنّ هابرماس له موقفٌ ملفتٌ مثير عن العقل حين يُصبح هو ذاته أيديولوجيا، مثله مثل أية أيديولوجية تُنشر وعيا زائفا، ليرفض حتى هذا العقل إذا ما غدا تعسّفا في تفسير الأمور وتأويلها، ليتحوّل بدوره لأيديولوجيا.

وإحدى دوافع عودتي للكتاب، ثم الكتابة عنه، كانت قناعتي أنّ أصحاب تلك الألسنة اللاهثة المندهشة والمذعورة من الكورونا، لن يُشفي غليلهم ورغبتهم في العثور على حدّ أدنى من تفسير لما يُحيق بالعالم في لحظتنا هذه من وباء وتعطيلٍ لمرافق الحياة الاقتصادية، عدا اضطرارهم للركون لعزلة اضطرارية في المنازل، ذلك الكمّ الهائل من المقالات التي تناولت الأوبئة في الأدب والرواية، وتعجز عن إشباع فضولهم الكبير (إلا في حدود محدودة)، فهم لا يحتاجون معرفة السرديات التاريخية عن الطاعون والأوبئة الأخرى التي ملأت تاريخ البشرية، بقدر ما يحتاجون لتفسيراتٍ مُقنعة، وتحدّ من شعورهم بالعجز عن تأويلٍ منطقيّ لوباء بهذه الضخامة من التأثير على حياتهم اليوميّة التي تعطّلت بشكلٍ شبه كلّي، وتجلب لهم بعض الاطمئنان الذي يفتقدونه في لحظاتهم هذه، بعدما شطح البعض في تصوّراتهم وتفسيراتهم عن الكورونا، وكأنّها نهاية العالم.

أنا شخصيّا وجدتُ كثيرا من المداخل في هذا الكتاب، يمكن أن نبدأ بها عصفا ذهنيّا قد يكون مُوجعا ومُتعبا، ولكنّه سيكون غالبا بحثا مُثمرا، لما نودّ الوصول إليه في تفسير الأحداث التي تعصف بحياتنا، ومنها وباء الكورونا.

كان العثور على بجعة سوداء يمثّل مفاجأة مدهشة لعلماء الطيور، لكن اكتشاف استراليا جعل من هذا الأمر شيئا اعتياديّا، ليستنتج” نسيم طالب” أنّ معارفنا المستقاة من الملاحظة والتجربة محدودة جدا، ومداركنا عن الأشياء والأمور هشّةٌ جدا، وكثير من المفاهيم الشائعة قد تفقد مصداقيتها بظهور بجعة سوداء واحدة فقط.

يشرح” نسيم طالب” مفهوم (البجعة السوداء) كحدثٍ غير متوقّع له، وفقا لتبعات ثلاث:

  1. حدث عرضي خارج نطاق التوقّعات المألوفة، ولا شيء في الماضي يُقنعنا بحدوثه.
  2. حدث يتضمّن تأثيرات بالغة الشدّة.
  3. طبيعتنا البشرية تؤهّلنا لتفسيره، بعد وقوعه، بما يجعله قابلا للإدراك والتوقّع.

ويُلخّصها نسيم طالب في: الندرة، التأثير الطاغي، قابلية الارتجاع، والتعليل.

فالبجعة السوداء حدثٌ يخصّ ديناميّة الأحداث التاريخية ومكوّنات حياتنا الشخصية، يتزايد احتمال حدوثه باضطّراد مع ازدياد تعقيدات العالم الذي نعيشه، وتعجز الكتب المدرسية عن تفسيره.

تساءل نسيم طالب، إن كان بإمكان أحد أن يتوقّع صعود نجم هتلر، أو انهيار الاتحاد السوفياتي، أو انهيار الأسواق في العام 1987، أو الأوبئة الوافدة، وغيرها من الأحداث التي تتبع لديناميّات البجعة السوداء، لأنّها تُعدّ ذا أهمّية كبيرة من حولنا، ومع ذلك تعجز أدوات علم الاجتماع عن قياس الغموض فيها.

استخدم نسيم طالب مفهوم” البجعة السوداء” في عالم المال والاقتصاد، ووجد نفسه محظوظا في تفسيرٍ وتنبّؤ، لم يسبقه إليه أحد، بانهيار سوق الأوراق المالية وأزمة الرهن العقاري عام 2008 التي تسبّبت في انهيار غير مسبوق لأسواق المال العالمية، بعد تراجع الطلب على قطّاع العقارات، وانتشار الديون المعدومة التي أدت لانهيار عدد كبير من المؤسسات المالية والعقارية في العالم.

مُدح نسيم طالب في معرفته الاستشرافية، حتّى وصفته صحيفة الـ”نيويورك تايمز“، بالرجل الرؤيوي الذي استطاع استشراف الكارثة المالية قبل حدوثها.

يدّعي نسيم طالب أنّ هنالك نقصا جوهريا في فهمنا للأحداث التاريخية، فالدّافع المحرّك لهذه الأحداث يختلف عن الأحداث بحدّ ذاتها، ليذهب إلى الاعتقاد أنّ العقل البشري في تماسه مع التاريخ يُعاني من ثلاث عللٍ أطلق عليها اسم ”ثلاثية الإبهام والغموض“، وهي:

وهم المعرفة في عالم أكثر تعقيدا مما نعتقد، التحوير الذي تتعرّض له الأحداث حين استرجاعها، والمبالغة في تقييم المعلومات الواقعية وعجز أصحاب السلطة والمتعلّمين عند تجزئة التاريخ لفئات بتأثير من ”الفكر الأفلاطوني“.

والفكر الأفلاطوني يعني به:

”ميلُنا إلى الخلط ما بين الموضوع وخريطته، وإلى الصيغ النقيّة والدقيقة التعريف، سواء كانت أشياء كالمثلّثات، أو المفاهيم الاجتماعية، مثل المدن الفاضلة، وحتى مفهوم القوميات ذاتها. الأفلاطونية هي ما تجعلنا نعتقد بأنّنا نفهم أكثر مما نحن ندركه في الواقع“.

والخرائط يقصد بها الخرائط الذهنية التي تتناول الحقيقة، أمّا العقل الأفلاطوني فيراه في تماسٍ مع حقيقة مشوّشة، ما يُوسّع الفجوة بين ما نعرفه وما نعتقد أنّنا نعرفه، وهذه الفجوة هي ما تولّد البجعات السوداء.

ويُمكن لمن يودّ الاستزادة عن الخرائط الذهنية ودورها في تقريب الأمور وتفسيرها، العودة للبريطاني” توني بوزان Tony Buzan” الذي وضع خرائط للعقل وكذلك للذاكرة، ولو أنّ نسيم طالب لم يذكر توني بوزان مطلقا.

فالاعتقاد بأنّنا نستطيع فهم هذا العالم المعقّد وأنّه أكثر قابلية للتكهّن به، هو نوعٌ من المرض، ولا يعكس الواقع، وكرأيٍ شخصيّ، يُمكن إخضاع ذلك لتحليل نفسيّ يتكفّل بتوصيف هذا النوع من الذهنيات التي تحاول تفسير أحداث العالم.

استغرب نسيم طالب كيف توقّع كثيرون وبثقة عمياء أنّ الحرب الأهلية اللبنانية ستضع أوزارها بعد عدّة أيام من اندلاعها، لكنّها استمرّت سبعة عشر عاما، والتوقّع ذاته، ستلجأ إليه فئة واسعة لاحقا، بعد صدور كتاب نسيم طالب، عن مسار الأزمة السورية التي مازالت ساخنة بعد مضيّ عشر سنوات، رغم أنّ هنالك من توقّع انتهاء الأمور واستتبابها في شهور، بل وحتّى في أيام.

توقّف نسيم طالب مثلا عند بعض الكتّاب الروس الذين غادروا روسيا، بعد الثورة البلشفية في عام 1917، فـ” فلاديمير نابوكوف” مثلا سكن في برلين، وفي اعتقاده أنّه يسكن على مقربة من العودة السريعة لروسيا، بل وعاش في مسكن مؤقت، ليُصبح مثلا لعمى التفكير الناتج عن الأمل.

فالتّاريخ في عرف نسيم طالب، لا يزحف زحفا، بل يتقدّم في قفزات، من انكسارٍ إلى آخر، مع بعض التذبذب، بينما يبقى البشر مخادعين لذواتهم، وكثيرون منهم يُشبهون إحدى شخصيات الكاتب الأرجنتيني” خورخي لويس بورخيس “، وهي شخصية” فُيون Funes “، ذلك البطل المجهول في قصة بورخيس المعنونة بـ ” الطيّب الذكر فيون” الذي لا ينسى شيئا، ولكنه محكوم بلعنة العيش مع الحمل المتراكم من المعلومات غير المعالجة، ومعظمنا ليس بمنأى عن هذه اللعنة.

والبيئة الأنسب لظهور البجعة السوداء، كبيئة معيارية، يراها نسيم طالب في بيئة مقاطعة وهمية أطلق عليها اسم” غلوائستان” وتقع في أقاصي إقليم التطرّف، وهي تعني الإسراف والغلوّ في كلّ شيء، وبلدٌ للعجائب والغرائب، وتمايز شيء واحد في هذه المقاطعة من شأنه أن يؤثّر على المقاطعة بمجملها، ومع ذلك فـ” غلوائستان” لا تعني بالضرورة” البجعات السوداء” دوما، لأنّ بعض الأحداث متعاقبة رغم ندرتها.

وكأنّ نسيم طالب يُخبرنا أنّ احتمال حدوث حدثٍ بديناميّة البجعة السوداء يزداد، كلما كان تشابهنا أقلّ، وكلّما قلّت ثقتنا بالمعرفة التي نستقيها من بيانات كثيرة تسعى لإقناعنا بيقينها المؤكّد، وكلّما ابتعدنا عن النمذجة.

وتبدو لي مشكلتنا مع المعرفة في أنّنا لا نُتقن القراءة الاستقرائيّة منها، حتى غدت هذه المعرفة كأنّ لا جدوى منها لتخدمنا.

مشكلة الاستقراء سبق وذكرها الفيلسوف الإنكليزي” ديفيد هيوم” بحديثه عن طبيعة الانسان وفهمه، لتُعرف هذه المشكلة في تاريخ الفلسفة بـ ” مشكلة هيوم “، وتتمثّل في أنّ ماهية التجربة لا تسمح لنا بفهم الأسباب والنتائج كأفكار مجرّدة، وهو ما يُقلّل من دقّة استقرائنا واستدلالنا عن العالم، ما أثار الشكوك عن قدرة الفلسفة ودفع الكثيرين للحديث عن” بؤس الفلسفة” كـ “كارل ماركس” مثلا.

كان هيوم الرافض للتعميم، الموقن أنّ خبرتنا الماضية عاجزة عن تبرير ما سيحدث غدا بيقين مقبول، يقول:

”كل النتائج التجريبية تقوم على افتراض كون المستقبل سيكون وفق ما عليه الماضي”

فمزاعمنا عن التوصّل للمعرفة ليست مقنعة تماما، لانّ حواسّنا مُضلّلة.

ونسيم طالب تحدّث عن هذه المشكلة في نظرية ” البجعة السوداء “، مشيرا لما سمّاها مشكلة ” المعرفة الاستقرائية ” لدى الفيلسوف ” برتراند راسل ” الذي بيّن كيف يمكن الانتقال من الخاص إلى العام، بالاستقراء، وشكّك في وجود معرفة يقينيّة، مؤكّدا أن لا دليل على وجود اليقين المطلق، وله قصّة معروفة ميّز فيها بين كلّ من المعرفة اليقينيّة والمعرفة الظنّية، وهي قصّة ” الحوار بين الدجاجتين ” التّي حوّرها نسيم طالب ليتحدّث عن قصّة الديك الرومي الذي يتمّ تقديمه كوجبةٍ أساسية هي الأشهر، في ” عيد الشكر ” بأمريكا، وهذا الحوار بين الدجاجتين بالأساس لم يورده نسيم طالب، لكنني سأضعه في السطور القادمة لأهمّيته، ولجماليّته.

الدّيك الرومي تتمّ رعايته لحوالي ألف يوم من الجزّار، الذي يعكف على رعايته حتى ينال ثقته، وفجأة، حين يأتي اليوم الموعود الذي يُدرك فيه الجزّار أنّه سيبيع هذا الديك بأكبر ثمنٍ ممكن، يقوم بذبحه.

عملية الذبح هذه هي” بجعة سوداء” ناجمة عن ثقةٍ مفرطة بالجزّار، واستدلالٌ استقرائيٌّ خاطئ وفقا لمعطياتٍ زائفة أودت بالديك الرومي إلى المسلخ.

كان مُلفتا لي شخصيّا، عندما صفح الرئيس الأمريكي” دونالد ترامب” عن أول ديك رومي في ولايته الرئاسية، بمناسبة ”عيد الشكر“، وهو الديك الرومي أبيض الريش ”درامستيك“، في العشرين من شهر كانون الثاني من عام 2017، في تقليد رئاسي يلجأ إليه رؤساء أمريكا، منذ عهد ”ابراهام لينكولن“، من بينهم ”باراك أوباما” الذي سبق وصفح عن اثنين من الديكة الروميّة هما” تاتر” و” توت “.

دعا ترامب الصحفيين إلى حديقة البيت الأبيض، ليُبادر لإطلاق سراح الديك، ويُعفيه من ذبحٍ كانّ مقرّرا في”عيد الشكر“، ثم يردف قائلا:

”أظن أن درامستيك سيكون سعيداً جداً. هل أنت مستعد درامستيك؟ لقد تم الصفح عنك الآن”

والمُلفت كذلك، هو أنّ صحيفة الغارديان البريطانية وصفت كتاب”البجعة السوداء“، في دلالةٍ على أهمّيته، بقولها:

”كتاب أشبه بالديك الرومي“.

قد يحلو للبعض أن يضع تصوّراتٍ عن أمريكا وسياساتها، منطلقا من التقليد الأمريكي في الإعفاء عن الديكة الرومية من مصير الذبح، والصفح عنها، ليصف أمريكا بـ” الكائن البهيمي” الذي يسعى لاصطياد الآخرين، كما رأى” الخميني” في إيران في العام 1979، ولكنّني ورغم أنّني لا أخوض في حدثٍ سياسيّ، أستطيع التوكيد على أنّ “حكم الملالي” القائم على تصدير الثورة، لا يحقّ له توصيف دلالات العُرف الأمريكي المّتّبع، رغم كلّ القبح الذي قد تمثّله السياسة الأمريكية.

أمّا دجاجتا الفيلسوف البريطاني” برتراند راسل “، فكانتا قد خاضتا في حوارٍ، يُظهر عدم ثقتهما بصاحب المزرعة الذي وضعهما في قنّ حقير، بمزرعته.

دجاجتان في القنّ، تهابان الخروج للفناء، لالتقاط ما ترميه لهما زوجة المزارع، من حبوب. وحال الدجاجتين أقرب لحال ذلك الذي يناقش ذاته، مع انتشار الكورونا، قبل أن يخرج من منزله لقضاء حاجة ما ملحّة أو لجلب الغذاء، في ظلّ الحجر المنزلي المفروض على معظم سكّان المعمورة. فاحتياطاتنا، ومعارفنا، قد تتعارض مع الواقع الذي نعيشه، وينال منّا خوف التقاط العدوى لمجرّد الخروج من المنزل.

الدجاجة الأولى:

لن أغامر بالخروج اليوم لالتقاط الحبوب، لأنني لا أثق بالمزارعَين.

الدجاجة الثانية:

لماذا؟ لقد واظبا على منحنا الحبوب على الدوام، وسيُطعماننا اليوم أيضا كما عهدنا بهما.

الدجاجة الأولى:

هذا كان من الماضي، وليس من المنطق أن نعتقد أنّ هذا ما سيحدث اليوم أيضا، بل إنّ حدسي يُخبرني أنّهما يُخطّطان لذبحنا اليوم. لن أخرج اليوم إلّا إن استطعت إقناعي بأنّه سيكون خروجا آمنا بالفعل.

الدجاجة الثانية:

جبانة أنتِ! لا تحتاج بعض المعتقدات لإثباتٍ مطلق حتى نعتقد بها، وهذه المعتقدات هي ما تُسيّرنا خلال يومنا، في واقع نعيشه ولا نستطيع الاستغناء عنه.

ينتهي الحوار. تخرج الدجاجة الثانية إلى فناء المزرعة، فتلتقطها زوجة المزارع وتذبحها، لتكون وجبة غذاء لها ولزوجها.

نسيم طالب ذهب إلى الاعتقاد أنّ هنالك، في عقول الناس، في فهم العلاقة بين المستقبل والماضي، بقعةٌ عمياء تشكلّ السبب في فشل تعلّمنا للفروقات بين توقّعاتنا السابقة وبين النتائج اللاحقة، والماضي خاضعٌ في تأويلاته، لتعدّد درجات الحرّية في قراءته وتفسيره، في وقت تُعدّ فيه إسقاطات الماضي على المستقبل من أسوأ ما تعلّمناه.

وكما يكثر الحديث الآن عن عددٍ من العقارات الطبّية، إن كانت تشكّل علاجا محتملا للقضاء على الكورونا، بينما يكثر الحديث عن الآثار الجانبية لها، فنسيم طالب اختصر كلّ ما يمكن قوله في هذا المجال، بحديثٍ خصّ الأطبّاء به، فذكر أنّ عقارا ما قد يُنقذ العديد من الناس من علّة خطيرة محتملة، بينما يحمل مجازفة قتل عددٍ قليل من الناس، مع ميلان الكفّة في النهاية لمصلحة المجتمع، ولكن مع ذلك ستتمّ مقاضاة الطبيب الذي وصف ذلك العقار لمن مات بسبب هذه الوصفة الطبية، وبشراسة، وسيُنسى أن ذات العقار أنقذ حياة العديد من البشر، ليوجز في النهاية قائلا: ”حياة يتمّ إنقاذها هو مجرّد عمل إحصائي، أما شخص قد لحق به الأذى فهو رواية وحكاية“، وهي مقولة اقتبسها من ”جوزيف ستالين“، مع بعض التحوير فيها.

دوّن نسيم طالب هامشا صغيرا في كتابه قائلا:

”في المرّة الأخيرة التي تناولتُ فيها وجبة بين الفطور والغذاء في مطعم صيني في ”كانال ستريت” في وسط مدينة نيويورك في مانهاتن، رأيتُ فأرا خارجا من المطبخ“.

هذا الهامش سيجعل القارئ يفكّر من فوره، بسوق الحيوانات البرّية والبحرية في مدينة ”ووهان” الصينية، البؤرة الأولى لوباء الكورونا، لكنّه لم يقصد ذلك حكما، بل أشار لواقع يتعارض مع استقرائنا الذي نُلبسه لبوس اليقين ونتشدّد في الاحتفاظ به، وبعنادٍ متصلب.

رأى نسيم طالب أنّ العالم معرض باستمرار للأوبئة التي سمّاها بالوافد الأبدي، كما أكّد على أنّ من شأن العولمة أن تُحدث بجعات سوداء شديدة التدمير، لأنّها” عولمة ساذجة “.

بالحديث عن بعض المقاربات الطبية، والبجعات السوداء في مجال الطبابة، أشار مثلا إلى أنّ الأطبّاء كانوا يرفضون الممارسة التي تدعو لغسل اليدين لأنهم لم يجدوا مبرّرا لذلك، رغم ما كانوا يشاهدونه من وفيّات كبيرة، قد تحمل دلالة مهمّة، عن هذا السلوك الذي يُعدّ من أساسيّات النظافة الشخصية.

كما ذكر الطبيب ”إيغنار ساميلديز” من القرن التاسع عشر، الذي روّج لفكرة القيام بغسل اليدين، ولم تلق دعوته أي قبول إلا بعد عقود من وفاته.

والملاحظتان لا تبدوان بحاجة للإشارة إلى كونهما من وسائل الوقاية من فيروس الكورونا، هذا الضيف الثقيل الظلّ في حياتنا الآن.

وعن الكورونا وتداعياتها كتب نسيم طالب الذي يعمل الآن مُدرّسا لتحليل المخاطر في جامعة” نيويورك” وخبيرا في الاستثمارات المالية، مقالا مشتركا مع مارك شبيتزناغل Mark Spitznagel المستثمر المالي الأمريكي ورئيس بنك التحوّط الاستثماري الدولي في فلوريدا، في 27 آذار 2020، وترجمة هذا المقال ستُشكّل الجزء الثاني المكمّل لهذا الجزء الأول.

نُشر في موقع الصدى نت وهذا الرابط إليه.