الكاتب الألماني دانييل كيلمان: عمّا قريب ، سيُصبح ترامب من التاريخ ج 1

عبد الحميد محمّد

ما الذي تفعله هذه الأرض بكلّ هذه الدماء؟

تشير مذيعة التلفزيون السويسري لما ورد في “Tyll”، الرواية المرشّحة للقائمة القصيرة لجائزة البوكر البريطانية الدولية لعام 2020، وآخر عملٍ روائيّ لـ” دانييل كيلمان” الكاتب صاحب اللغة الألمانية الأكثر رشاقة، والأكثر نجاحا في الوقت الحاضر.

تُحوّر المذيعة في السؤال:

ما الذي نفعله نحن البشر مع كلّ هذه الدماء؟

يردّ ذو الـ 45 عاما، بشيءٍ من الارتباك الممزوج بالخجل والابتسامة:

الماضي لم ينته، مذابح الماضي، مذابح حرب الثلاثين عاما (1618 ـ 1648) في أوربا، مازالت حاضرة تُعلن عن نفسها في سوريا.

يسهبُ كيلمان:

مازالت سوريا تنهار. هنالك قوى غير عقلانية تستولي على السلطة في كلّ مكان. التنوير في الوقت الراهن يبدو في تراجع لحدّ كبير، على الأقل كسلطة سياسية. والحروب الدينيّة التي اعتقدنا أنّنا قد تغلّبنا عليها، تبرز فجأة أكثر من أيّ وقتٍ مضى.”

ثم يؤكّد مستدركا، أنّ الحرب في سوريا ليست حربا دينيّة، بل نزاعا على السلطة، كما خلفية حروب أوروبا، وُظّف الدين فيها لمآرب سياسية، وهذا ما نبذه في “Tyll”، ليُظهر المعتقدات الدينية التي وقفت وراءها، كنفاقٍ فاقدٍ لأيّة فعالية ولأيّ دورٍ بنّاء.

 

تقول إحدى شخصيات كيلمان في روايته” شهرة Ruhm” التي صدرت في عام 2009:

وجود الله لا يُبرّر

فطرح الأسئلة عن” الله” يترك لديه شعورا بعدم الارتياح، وهو يومئ لما ذهب إليه” غوتفريد لايبنيتز” الذي أوجد مصطلح” الثيوديسيا Theodizee” كناية عن العدالة الإلهية، محاولا تبرير وجود الله وجعله منطقيا والبرهان عليه حتى بالرياضيات، رغم كل العيوب الظاهرة في هذا العالم، ورغم مشكلة الشرّ وكلّ مظاهره السائدة في هذا العالم، التي تنفي عن الله صفة” كلّي القدرة “، الأمر الذي عدّه” ماكس فيبر” مشكلة اجتماعية مقارنة مع الحاجة الإنسانية.

فشل التفسير الديني الأخلاقي للعالم، فيُشير لما تقوله إحدى شخصياته في الرواية التي كانت منعطفا لشهرته، رواية” مسح العالم “، دامجا رأيه مع عالِم الرياضيات (غاوس):

لا يؤمن بأن هنالك يوم قيامة، فبإمكان المرء الدفاع عن نفسه في يوم الحساب ليردّ على الله بأسئلة مُحرجة يوم يُنادى المنادى، وهذا ما أعتقد به كذلك.”

سُئل إن كان يؤمن بوجود إله، فأجاب قائلا:

سأختار إجابة عالم الرياضيات والفيزيائي والفلكي الفرنسي بيير سيمون لابلاس: لا يحتاج المرء لهذه الفرضية. كان تاريخ العلم في آخر مائتي سنة سلسلة اكتشافات، تُظهر لنا أنّ العالم مربكٌ كثيرا وأنّنا مشرّدون فيه أكثر مما نودّ تصديقه”.

أظهر كيلمان، الطالب السابق في إحدى مدارس الكنيسة اليسوعية، زلزال التسونامي في عام 2004 الذي أودى بحياة أكثر من مائتي ألف شخص، لُتقرأ كعقابٍ إلهي (لا يؤمن به طبعا) يتكرّر من الله بحقّ خلقه من البشر، منذ حرب الثلاثين عاما وحتى اليوم في الحرب بسوريا.

الوصف عن الله في” شهرة Ruhm “، يرد على لسان شخصية أمٍ ترزح تحت المعاناة والألم، أما العمل ككل فهو تسع قصصٍ مستقلّة متداخلة لا التزام بالتسلسل الزمني لها، يتداخل فيها الواقعٍ المعاش مع الخيال، تؤكّد على التهديد الذي تتعرّض له البشرية بسبب التكنولوجيا الحديثة. عملٌ تغيب فيه شخصية البطل الرئيسي، تجري أحداثه في ألمانيا وسويسرا وأمريكا اللاتينية وآسيا، وأفريقيا.

غياب شخصية رئيسيّة، يوضحه كيلمان على لسان شخصية” ليو ريختر Leo Richter”، مخاطبا صديقته:

رواية بدون شخصيّة رئيسية! هل تفهمين؟ التركيب، العلاقات، المنعطفات، لكن ليس من بطلٍ للرواية، ليس من بطلٍ دائم”.

صُنّفت الرواية، لبنائها غير المعتاد، كأدبٍ ما بعد حداثي، ينظر للشهرة والحقيقة على أنّهما عابرتان، كحال هويّتنا الإنسانية التي تسرقها التكنولوجيا، فـ “فرانسوا رابليه” حذّر من الخراب الناجم عن” علمٍ من دون وازع “، وكيلمان الدارس للفلسفة أكاديميا، كأنّما يودّ الاستجابة لنداء هايدغر، لتفكّر الفلسفة أكثر مما يفكّر العلم.

يقول ليو ريختر:

نحن كامنون دوما في القصص. قصصٌ في قصص في قصص. لا يعرف المرء أبدا، أين تنتهي إحداها وأين تبدأ أخرى. تصبّ كلٌّ منها في الأخرى. تُفصلُ عن بعضها البعض فقط في الكتب، بدقّة وعناية”.

لاقى عمله هذا صدى كبيرا حتى رُبطت قوّة السرد لديه بالنثر الذي تميّز به الكاتب الأمريكي الراحل” ريموند كارفر Raymond Carver “، رائد القصة القصيرة بأمريكا في ثمانينيّات القرن العشرين، والذي وُصف بـ ” تشيخوف الأمريكي “.

أمّا” مسح العالم” فُحوّلت لفيلمٍ سينمائيّ، عرض فيها لنابغتين من القرن التاسع عشر في أوربا، كامتدادٍ لعصر التنوير، أقرب لأطروحة فلسفية، بسردها القائم على مزيجٍ من الأدب والفلسفة، بمسحة علمية.

تدور الرواية حول شخصيّتين رئيسيّتين هما” فريدريش غاوس” عالم الرياضيّات، و” ألكسندر فون هومبولدت” الرحّالة وعالم الطبيعيّات.

موضوعها عن العلم وغاياته، وعن أمريكا وسحر العالم الجديد، لكنّ الشيخوخة تحضر دوما في رواية تقارب روايات الخيال العلمي، بمقاربتها لتوجّهات المستقبل، واستشرافها للتطوّر العلميّ القادم، فيقول غاوس:

قريبا ستُبتكر آلات تحمل الناس من مدينة إلى أخرى بسرعة الطلقات

يورد هومبولت حكما تقييميّا للرواية:

كتابة الرواية هي أفضل السبل للإمساك باللحظة الهاربة من الحاضر لأجل المستقبل”.

تُرجمت الرواية لأكثر من أربعين لغة منها العربية، لترسّخ نجاح كيلمان، فهي الرواية الألمانية الأكثر نجاحا وانتشارا منذ نجاح رواية” عطر” لـ” باتريك زوسكند “. ولكاتب هذه السطور مقالٌ منشور سابقا، عن هذا العمل.

عُرف كيلمان كمحبٍّ وصديقٍ للعلم، ولذلك تستند بعض أسئلة اللقاء المترجم معه_ سيرد كجزءٍ ثان _ على هذه العلاقة الحميمة مع العلم.

رواية “Tyll”

يُظهر كيلمان مهارته في سرد أهوال التاريخ، فيبدأ بمشهد يرقص فيه “Tyll”، على الحبل كبهلوان ماهر، ليوصف سرد كيلمان نفسه بمهارة بطله في الرقص، الذي يرمي فردة حذائه اليمنى بين أرجل سكّان القرية، ثمّ يطلب منهم كلّهم خلع فردتهم اليمنى ليعثر على فردته، كأنّما يُخبرنا أنّنا جميعا ننتعل حذاء يخصّنا، وأنّنا كبشر حين بدأنا بانتقاء أحذية وملبس يغطّي عورتنا، فقد تخلّينا عن براءتنا، لصالح النزعة التدميرية فينا، وأنّ الإنسان قد انتهى، حين تمايز عن الحيوان العاري، وادّعى التحضّر، فالمشهد ينتهي بقدوم الجنود إلى القرية، ليذبحوا أهلها جميعا.

مشهد اقتحام الجنود لمدينة” ماغديبورغ Magdeburg” الألمانية، يأتي كتفصيلٍ للمأساة الألمانية في تلك الحرب.

اعتيادنا على الصمت عن المذابح يشجّع من يقترفونها على التمادي أكثر، فيقول جندي شارك في اقتحام المدينة:

افعلوا ما تريدون. المرء لا يستطيع القيام بشيء، إلا بعد أن يعتاد على إمكانية فعل ذلك حقّا. هكذا يتمّ الأمر، فيفعل المرء مع الناس ما يريد فعله.”

تجرّد الجميع من الحماية في ظلّ فوضى الحرب، ودجل الكنيسة آنذاك، والتشوّش وفقدان البوصلة، ليغدو مصير سكّان ألمانيا وأوروبا رهنا بمؤامرات بلاط الملك السويدي” غوستاف أدولف Gustav Adolf” و” ملك الشتاء Winterkönig “، ليُصبح للحرية معنى آخر:

من ينهب أو يقتل، لن يُساءَل. هذا هو ثمن الحرية “.

الألمان الذين يعيشون الآن على أرض ألمانيا، هم الناجون من مذابح تلك الحرب، مثلهم مثل ذلك الأب وابنه اللذين نجيا من الكارثة التي حلّت بالأرض في رواية ” الطريق ” للروائي الأمريكي ” كورماك مكارثي “، إذ ليس المهرّج الأحمق وحده من يغطّي المشهد، بل هناك قطّاع الطرق والسحرة والمشعوذون والجلّادون وضحاياهم والباعة المتجوّلون، وتجّار التوابل، كلهّم يحضرون في رواية كيلمان التي تعالج كارثة محدّدة، بينما أغفل مكارثي تسمية الكارثة في روايةٍ من روايات الخيال العلمي، تبدأ من زمن غير محدّد، بعد كارثة، قد تكون حربا نووية أو وباء.

أشار كيلمان لفيلم سينمائيّ استند على رواية للأمريكيّ الراحل” ريتشارد بورتن ماثيسون Richard Matheson “، وهو فيلم” أنا أسطورة I Am Legend” لـ “ويل سميث Will Smith”، يُظهر حطام مدينة خالية من السكّان بعد الكارثة، بينما يُظهر كيلمان القرى الزراعية وقد خلت من السكّان.

كيلمان قدّم لرواية” 1984” لـ ” جورج أورويل George Orwell ” في إعادة طباعة ألمانيّة لها، فذكر أن أورويل عاد فجأة، ليؤثّر بشكل كبير، بعد انتخاب ” ترامب ” وتتصدّر قائمة الأكثر مبيعا، رغم أن ما تعيشه أمريكا ليس هو ما يصفه أورويل في روايته عن كابوس الدولة الشمولية، بل استبدادا يُطلق عليه كيلمان وصف ” كليبتوقراطية Kleptokratie “، معتبرا أنّ ترامب يتّخذ من الرئيس الروسي ” بوتين ” قدوة مثالية له. أما الـ” كليبتوقراطية” فهي حكم اللصوص، تحكم فيه أقلّية مستبدّة، تسيطر على المال العام، بعيدا عن أية رقابة خارجية، تتراكم ثرواتها وسلطتها، على حساب المحكومين، واستخدم المصطلح لوصف الحكم في الاتّحاد السوفياتي السابق، روسيا، نيجيريا، والفلبين.

تتألّف الكلمة من مقطعين هما “كلبتو” وتعني اللصوص، و “قراط” وتعني حكم.

كيلمان اعتبر أنّ بروز رواية أورويل مرة أخرى لم يكن مفاجئا، فبعض الشخصيّات الروائيّة يمكن إعادة اكتشافها، حتى ممن لم يسبق لهم قراءتها، ومنها شخصية ” دونكيشوت ” لسيرفانتس، و ” موبي ديك ” للأمريكي ” هيرمان ملفيل “، و” شارلوك هولمز ” أو ” دكتور واطسون ” للإسكوتلندي ” سير آرثر كونان دويل “، أو ” بيتر بان ” الصبي الذي رفض أن يكبر للإنكليزي ” جيمس ماثيو باري “، فهي شخصيات غدت جزءا من الوعي الجمعي، لأنها أعمال تجاوزت زمنها، كما هي حال الشخصية الخيالية ” الأخ الأكبر ” في رواية أورويل ” 1984 “، المرادفة للتعسّف في السلطة.

يصف كيلمان رواية أورويل” 1984” بأنّها لا تُنسى لأنّها استطاعت وصف الكابوس بدقّة، بكثافة عصيّة على النسيان، لتلاحقنا بمأساويّتها أبدا، أظهر فيها أورويل أنّ الدولة الشمولية لا تصادر الحريات وحسب، بل وتعجز عن تحمّل الحقائق، وحتى علاقة حبّ لا يمكنها تقبّلها، لأنها تخلق ألفة بين شخصين تعجز عن اختراقها، فتقوم الدولة بإقناع وينستون سميث ليخون حبيبته جوليا، ويعود مؤمنا بالنظام بعد كفرٍ به.

يُبدي كيلمان إعجابه بتقنيات أورويل المتمثّلة في الصور والمجاز في البلاغة اللغوية، للإيحاء بما يتجاوز اللفظ الحرفي للكلمة لوصف الهياكل السياسية السخيفة، وكأنّها عودة للسريالية وما كتبه السريالي الفرنسي” رينيه ماغريت René Magritte” تحت الغليون الذي رسمه:

” هذا ليس غليونًا، بل لو أنّني قلتُ أنّه غليونًا سأكون كذّابًا”

فأورويل نفى وجود الحرّية بمعناها السياسي والفكري، ليذهب للقول إنّ” الكلب حرٌّ من القمل “، مشيرا للتمويه الذي تمارسه الدولة عبر تحوير الكلمات، فتدّعي” زيادة الإيرادات” كناية عن فرض ضرائب جديدة، وتدّعي” تحييد” بدلا عن” الرجم بالقنابل “، حتى تكوّن لدى أورويل أملٌ بقدرة البشرية على التحرّر، فالأمر لديه” يتعلّق باعتماد الفكر على الكلمات “.

يُظهر كيلمان احترافية في ممارسة النقد، فـ” ميشيل فوكو” كذلك، ربط بين غليون ماغريت وبين الحقيقة واللغة والخلل البنيوي للأفكار، وهو ما تُظهره حوارات وينستون سميث مع معذّبه في رواية أورويل.

كشف كيلمان أنّ الاسم الأولي لرواية” 1984” كان” الإنسان الأخير في أوربا “، قبل أن يحسم أورويل العنوان لاحقا لأسباب غير معروفة، لكنّه امتلك قدرة على استشراف المستقبل، فهتلر كان قد هُزم، لكنّ ستالين كان في قمّة جبروته في الاتّحاد السوفياتي.

والأمر الذي يراه كيلمان مدهشا أكثر، هو أنّ شخصية ” الأخ الأكبر ” شخصية خيالية لا يُعرف بالأساس إن كانت موجودة أصلا، على عكس شخصيات أورويل الأخرى في 1984، كشخصية ” ونستون سميث ” وعشيقته ” جوليا ” وشخصية القائم بالتعذيب ” أوبراين “، يكتنفها الغموض والضبابية، وليست هي من أثّرت لتصبح جزءا من الوعي الجمعي، بل تلك التقنيات الثقافية المستخدمة في الدعاية والتضليل، وقدرة أورويل على تكثيف اللغة كحامل لخطابٍ قادر على رسم صورة الاستبداد بالشكل الأمثل، حتى غدا مصطلح ” أورويلي Orwell haft “، دلالة على التضليل والتزييف، وهو لا يجانب الحقيقة في وصف أورويل الذي قال:

” لقد صُمّمت اللغة السياسية لكي تجعل الأكاذيب تلبس ثوب الحقائق، وتقتل ما هو جدير بالاحترام. “.

ليس المقام هنا عن أورويل، لكنّ الخطاب السياسي في أعماله يُعدّ من أهمّ ما يميّزه، فكتابه ” السياسة واللغة الإنكليزية ” يُدرّس حتى الآن في مدارس أمريكا، واللغة ” سيميوطيقا اجتماعية ” وأحد أشكال ” الممارسة الاجتماعية “، و” نورمان فاركلوف ” رأى الخطاب قائما على اللغة وسيروراتٍ سيميائية باعتبارها عناصر من الحياة الاجتماعية، وقادرة على إحداث تغييرات تربوية واقتصادية، وأورويل أظهر ببراعة في روايتيه ” مزرعة الحيوان ” و” 1984 ” كيف تقوم اللغة بترسيخ سلطة الدكتاتوريات الشاملة، وتحجيم أفق التفكير لدى مواطنيها والهيمنة عليهم، بلغتها الفاسدة.

وصف كيلمان بطل روايته، ليؤكّد على أنّها شخصية اختلقها لبناء روايته ولا وجود لها في الواقع، قائلا:

” “Tyll”، ذلك الذي لم يوجد قطّ

“Tyll” كان شخصا مغمورا، لكنّه كان شخصا فظّا رغم موهبته، والده بدا غريبا عن العالم، بينما والدته، فبالرغم من دفئها، خارت قواها من كثرة الولادات والإنجاب، وكلّ من ولدتهنّ ماتوا بين يديها، باستثناء “Tyll” الذي يُنقذ نفسه بالرقص، ليُشير كيلمان لقوّة الفن وقدرته في التغلّب على الظروف القاسية.

“Tyll” هو ابن الطحّان الذي يُعدم بحجّة ممارسة السحر والشعوذة، فيهرب برفقة ابنة خبّاز القرية، ليصبح مشعوذا و” مهرّج البلاط” لدى المنفيَين من بوهيميا الملك” فريدريش” والملكة” أليزابيت “، اللذين أدّى تتويجهما لحرب الثلاثين عاما. يجوب المهرّج البلاد كلّها، ليسرد كيلمان خلال تنقّله دراما الحرب، مستعينا بالقصص الشعبية، بمزيج من الحقيقة والخيال في رواية المعاناة والقسوة التي عاشتها أوروبا آنذاك، فيكرّر كيلمان قوله:

الأحمق يمكنه الذهاب لأيّ مكان “.

يربط كيلمان، في حواراته، بين هذه الشخصية وترامب، فعصر الباروك والعصر الحاضر دائما ما يتداخلان، وهذا جعله يعيش إحساسا غريبا بأنّ الزمن الذي تدور فيه أحداث روايته كان يقترب من زمن الحاضر، كلّما مضى في كتابتها.

أحدّ القرّاء الألمان ذكر أنّ في شخصيّة “Tyll” شيئا من كيلمان، ليس للدلالة على حبّه، كما ترامب، لاختلاق النزاعات، بل للدلالة على نجاحه في سرد فظائع الحرب الدينية عبر شخصية المهرّج، وبإتقان شديد.

حرب الثلاثين سنة

بدأت شرارتها مع الحادثة المعروفة بـ” نافذة براغ Prager Fenstersturz “، في الثالث والعشرين من أيّار 1618، بعد غضبٍ البروتستانت على الملك الكاثوليكي” ماتياس هابسبورغ Matthias Habsburg” الذي قلّص الحرّيات الدينية، فأثار حفيظتهم لخرقه اتفاقية” سلام أوغسبورغ” 1555، ليلجؤوا في بوهيميا إلى ما كان يُعدّ آنذاك تعبيرا عن إعلان حرب ضدّ الملك ماتياس، برمي نائبيه من نافذة قلعة براغ.

نجا النائبان من السقوط، لكنّ الحادث أشعل شرارة حربٍ أدخلت أوروبا في فوضى لم تنته إلا مع توقيع صلح نظر لأوربا ككيانٍ واحد لأول مرة وهو” صلح ويستفاليا Westfälischer Friede” 1648، أقرّ بحرّية التديّن والمساواة بين جميع المذاهب المسيحية.

كان السبب المباشر لهذه الحرب دينيّا، لكن حقيقتها تكمن في الصراع على الثروة والمصالح السياسية، عدا عن العامل الاقتصادي، فبعض القوى كانت تتنقّل في الموالاة بين أطراف النزاع وفقا لما يُقدّم لها من المتخاصمين، وإذ عجزت الأطراف عن إنهاء الحرب، لجأت للمطالبة بحقوقها الدستورية، متناسية الخلفية الدينية العقائديّة لصالح المصلحة السياسية والاقتصادية، لتتدخّل المصالح الخارجية لحسم الموقف، وهو الأمر الغائب عن الحرب في سوريا حتى الآن لوضع حدّ لانهيارها، بينما يعجز السوريون عن الوصول لتلك الهشاشة التي سمّاها محمود درويش ” نضجا ” في الحكمة، ليصلوا سالمين ولو متأخّرين.

رواية “Tyll” تحذيرٌ من القوّة التدميرية للدين، استعرض فيها كيلمان النموذج الأكثر سلبية لجاذبية الدين وسحره، وقدرته على استجرار العنف، حتى يومنا هذا، مؤكّدا أنّ الصلاة لا طائل منها لمنح الدين وظيفة فعّالة، فصلاة سكّان أوروبا لكل الآلهة والقدّيسين، لم تحمهم من الحرب والمذابح:

لقد صلّينا كثيرا لإبعاد الحرب. صلّينا لله سبحانه وتعالى ولمريم العذراء الرؤوم، ولسيّدة الغابة، وللمستضعفين في منتصف الليل. “.

كأنما كان الله في شوق للسلام على ضحاياه، لتروي دماء أكثر من ستّة ملايين شخص أرض ألمانيا، التي غدت أمام أزمة بيولوجية تمثّلت في ندرة الرجال مقارنة بالنساء، لتلجأ لتعدّد الزوجات، لخلق التوازن بين الجنسين، بمباركة من الكنيسة، وعودة لتعاليم العهد القديم.

الخلفية الفلسفية والميثولوجية لشخصية” Till-Eulenspiegel-Figur”

استعان كيلمان بحكاية شعبية أقرب للأسطورة، وهي” تيل _ مرآة البومة Tyll Eulenspiegel”.

أطفال ألمانيا وجامعو البوم يُدركون ما تعنيه حكاية” Tyll Eulenspiegel “.

يدلّ الاسم على أحد أشهر المهرّجين في أوربا، ويُستخدمُ بكثرة للتهكّم والسخرية، كما اسم جحا في العالم العربي.

وُلد المهرّج سليط اللسان في عام 1300م بمنطقة” كنايتلينغن Kneitlingen” وتحديدا بمدينة” أيلم Elm” التابعة لولاية ساكسونيا السفلى بألمانيا، وتوفي عام 1350 بمدينة” مولن Mölln “، وكان معروفا في برلين وبراغ ونورنبرغ وروما وبراونشفايغ، وله في مدينة” أيرفوت Erfurt” بألمانيا نصب تذكاري.

اسم” تيل Tyll” يُكتب كذلك بصيغتي” Till” أو” Dill “، ويوصف بالمخادع الجوّال أو المجنون أو المغفّل.

مع بداية القرن السادس عشر، ساد في أوربا نوع من الكتب الشعبية، يختصّ بتدوين أدب الشارع، تمّ تداوله بكثرة لرخص ثمنه.

وفقا لأحد الكتب من هذا النوع المسمّى في ألمانيا بـ” Volksbuch “، يعود تاريخه لعام 1510، فإنّ” تيل مرآة البومة Tyll Eulenspiegel” كان يحمل مرآة بيده، بينما تمكث بومة على كتفه، طالبا من الأغنياء أو أصحاب السلطة النظر لأنفسهم فيها، ليدلّهم على أخطائهم، فيتسبّب في ضحك المرافقين أو استفزازهم وغضبهم، لكنّ الأسطورة لم تستثن الأذكياء من مقالبه.

تُسمع مقالبه في معظم أنحاء أوروبا، فهو حين قدم من” براغ Prag” إلى مدينة”” أيرفوت Erfurt” أعلن عن قدرته على تعليم أيّ شخص القراءة والكتابة، فشكّك معلّمو الجامعة في المدينة بقدرته على ذلك، واشترطوا عليه بعد تفكير عميق، أن يعلّم أحد الحمير، فقبل التحدّي ولجأ لوضع كتاب في حوض العلف الذي يأكل فيه الحمار، واضعا بين كل صفحةٍ وأخرى بعض الشوفان، ليبدو الحمار وكأنّه يقرأ فعلا، لأنّ عليه تقليب الصفحات للوصول للشوفان وتناوله. بعد مضيّ أسبوعٍ واحد دعا المعلمين لرؤية الحمار الذي تعلّم بالتكرار كيف يصل للشوفان، وكان قد قام بتجويعه طوال ذلك اليوم، دون أن يضع الشوفان بين صفحات الكتاب هذه المرّة، ليهجم الحمار على الكتاب من فوره، عامدا لتقليب صفحاته بغية الوصول للشوفان، فخاطب” تيل” المعلمين:

انظروا كيف تعلّم الحمار في سبعة أيّام

أمّا المرآة فتحمل سمة الخداع، وعند اليونانيين تعني التعرّف على الذات في حالتها الفعلية، وهذا بالضبط ما كان يقوم به” تيل ـ مرآة البومة “.

البومة في اليونان القديمة كانت رمزا للمعرفة، واستعان هيغل بها في فلسفته، لكنّها في العصور الوسطى كانت ترمز لـ” طائر الشيطان “.

والمعنى المزدوج لرمزية البومة يلائم ما يقوم به” تيل ـ مرآة البومة “، فهو من جهة يحمل معنى روحيا يتمثّل في فضحه للناس وبالأخص من في السلطة، ومن جهة يحمل معنى شيطانيا تدميريّا، وصولا لـ” فاوست” غوته.

كمعنى آخر، فحمل المرآة أمام الناس يعني مطالبة بأن ينظّفوا مؤخّرتهم.

وردت هذه الشخصية في كتاب مغامرات الشاعر البلجيكي” تشارلز هنري دي كوستنر “.

في موقفه من أزمة اللاجئين اعتبر كيلمان أنه لم تكن هنالك مشكلة لاجئين، لكنّ السياسيين حوّلوها لأزمة للنأي بأنفسهم عن الالتزام الأخلاقي بمساعدة من بقي في سوريا من شعبها، لمساعدتهم على الاستمرار في الحياة.

اعترض كيلمان على تحالف مستشار النمسا” كريستيان كيرن” مع اليمين، محذّرا من دفع ثمن لذلك وهو ما حصل بالفعل، حيث انهارت الحكومة النمساوية بانهيار التحالف بعد انكشاف تحالف اليمين النمساوي مع بوتين.

أشار” فرويد” إلى التحريف المنهجي لحقيقة التعاليم الدينية، فالدين كان ومازال سببا للكثير من كوارث البشرية، وكيلمان فضح دوافع حرب الثلاثين عاما، مستعينا بالسخرية والجنون.

شوبنهاور اعتبر السخرية مرحلة أولى تمرّ بها الحقيقة، ثم كمرحلة ثانية تتمّ مقاومتها بعنف، لتصبح من المسلّمات في مرحلة ثالثة.

نيتشه رقص على الأشياء، لجبر انكساراته وتصعيد هشاشته المفرطة، حتّى وُسم بأنّه مجرّد أحمق، فنشد:

ومع ذلك فالحقيقة هي التي تنطق من خلالي. حقيقتي فظيعة، لأنّ الكذب هو الذي ظلّ يُدعى الحقيقة حتى الآن”.

أما زرادشت نيتشه فيقول:

كفانا كلاما عن هذا البهلواني، ودعونا الآن نراه. وإذا الشعب كله يضحك ساخرا من زرادشت، والبهلواني الذي ظنّ أنّ الكلام كان فعلا يعنيه، يشرع الآن في أداء عمله.”

بحث كيلمان لأكثر من ثلاث سنواتٍ في تاريخ العصور الوسطى، فوجد ضالّته في الحكاية الشعبية، التي منحته قدرة مراقبة الواقع بعيدا عن الفلسفة الكلاسيكية، وبعيدا عن التأمّل في سرد ملحمة حرب الثلاثين عاما، ورصد المخيّلة البشرية.

كيلمان لم يكن بوارد محاكمة العالم المسيحي، على إيمانه بخرافات كخرافتي التنّين والماموث وغيرهما، فآنذاك لم تكن هنالك خيارات ممكنة لهذا العالم، أكثر من الإيمان بالخرافة كعلمٍ وحيدٍ سائدٍ، وبالتنّين كأحد العلوم، وبالسحر والشعوذة، بغياب النظرة العقلانية للعالم، فكانت الكنيسة تغري ” المؤمنين ” برواياتها عن التنّين مرفقة بموسيقا أكثر جذبا تبتّها الكنيسة.

تكمن الغرابة في أنّ هنالك من ينظر للتنّين كعلم وحيد حتى الآن، ليس في أوربا، بل في العالم الإسلامي، فالكنيسة حُيّدت عن مجتمع الحداثة وما بعدها في أوربا، وغدت اعتقادا شخصيا فقط، تكفله حرّية الاعتقاد.

ملاحظة:

باستثناء اقتباسين من” مسح العالم “، فجميع الاقتباسات المتعلّقة بدانييل كيلمان وأعماله، من ترجمة كاتب هذه السطور، وهي مستقاة من حوارات ولقاءات صوتية ومكتوبة. اقتباسات أورويل وغيره ترجمات متداولة. تلي هذا الجزء ترجمة لقاء مع دانييل كيلمان من الألمانية.

نُشر المقال في موقع الصدى نت، والرابط إليه هنا.

 

Print Friendly, PDF & Email

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *