قصّة صعود وأُفول الفيلسوف جاك دريدا

قصّة صعود وأُفول الفيلسوف جاك دريدا

عبد الحميد محمّد

 من التفكيكيّة déconstructionnisme ونقد الميتافيزيقيا إلى علم الكتابة والاختلاف la différence، عناوين دفعت الكثيرين للاعتراف بعدم قدرتهم على استيعاب الفيلسوف الفرنسي “جاك دريدا Jacques Derrida” الذي بجّله البعض لدرجة القداسة والعبادة، بينما اتّهمه البعض الآخر بالدّجل.

وبالفعل فدريدا مبعثُ قلقٍ في الفهم والترجمة وأقربُ للغزٍ ساحر.

فعل القراءة والتّفكيك

يُؤخذ على دريدا مغالاته في النزعة المعرفية المتشكّكة، لكنّ إتقان الفهم نفسه يُعدّ من ضرورات التعامل مع فكر دريدا الذي رأى أن سوء الفهم لطروحاته نابع من أفكارٍ مسبقة عن اللغة دون تمحيص فيما يطرحه، معترفا بأنّ القارئ قد يضطرّ لإعادة القراءة ليفهمه جيدا، في وقتِ لا يعتبر نفسه إلّا قارئا.

دريدا يبدو متفوّقا حتى على ذلك “القارئ النموذجي” الذي يكمن في كلّ نص وفقا للسوسيولوجي الإيطالي “أومبرتو إكو Umberto Eco“.

ومن حيث كونه قارئا، وقبل الحديث عن المقال المترجم سأحاول توضيح ما تعنيه التفكيكيّة باختصار وتكثيفِ شديدين.

دريدا يرى أنّ الهويّة تتمثّل في استخدامنا للغة وما يتركه هذا الاستخدام من أثر لاحق، فاللغة حاملة لعلامات إن نحن استخدمناها بشكل مختلف مخترقين ومتجاوزين لمعانيها ودلالاتها، فإنّنا نقوم بتغيير الواقع.

وحكما من ينطلق من هذا الفهم سيُصبح قارئا قبل كل شيء، بل لن يكون لديه ما يعدك به سوى فعل القراءة، ولذلك لا تحمل التفكيكية بديلا لما تنسفه وتقوّضه، بل من الصعب حتى عدّها منهجا.

كلّ ما وعدت به التفكيكية هو استنباط معنى مختلف من قراءة الإرث الفكري للغرب، ولذلك لجأ دريدا إلى قراءة هيدغر وماركس وهيغل وفرويد وجان جاك روسو، لزعزعة أيّ يقين لدى الغرب، محاولة منه للوصول لرؤية جديدة مختلفة للعالم عبر الدخول في صراع فكري عنيف مع هذه الأسماء وغيرها.

ودريدا قام بوضع رؤيته الجديدة بالفعل في كتابين أصدرهما عام 1967 وهما “في علم الكتابة De la grammatologie” و”الكتابة والاختلاف L’Écriture et la différence“.

دريدا انطلق من اعتبار أنّ للغة قوانينها الداخلية العميقة باعتبارها بوّابتنا على العالم في التعرّف على الأشياء وتسميتها، في وقت تمتاز فيه هذه اللغة بكونها شفّافة وفورية مع تعرّفنا عليها، أمّا قابليّتها للتحوّل فهو ما تكفّلت به الميتافيزيقيا ولا سيما ميتافيزيقيا الوجود الغربية، ليلفت انتباهنا إلى انعدام التماسك المنطقي في الفكر الغربي ولا سيما لدى كل من نيتشه وهيدغر.

أشار دريدا إلى هرم كبير جدا من الثنائيّات المتضادّة كالأبيض والأسود والجميل والقبيح والمذكّر والمؤنّث والداخل والخارج، وغيرها.

وما تعنيه كلّ كلمة ليس ثابتا منذ البداية، فالإشارة والعلامة ليس لها من مدلولِ ثابت مباشر توصله لنا، بل مدلول مفتوح من حيث المبدأ ومتغيّر في المعنى.

هذا المعنى المفتوح للغة جعل دريدا يذهب للقول إنّ للغة نظامها وهيكلها الذاتي الذي تعمل عبره ذاتيّا، وبناء على ذلك أعلن أنّ اللغة لا تمثّل العالم بقدر ما تمثّل علاقات القوّة.

والعلاقة بين هذه الأضداد في هرم الثنائيات الكبير لا يجب أن تبقى ثابتة من خلال الطرف الأقوى الذي يحاول ترسيخها بمزيد من التحايل والخداع بالاستفادة من واقعِ قاس واستثماره واستغلاله.

فطالما أنّ للغة نظامها المفتوح القابل للتغيير يمكننا القول بإمكانية تقويض علاقة القوّة هذه رأسا على عقب، كالعلاقة التي تعبّر عنها مثلا ثنائيّة المرأة والرجل التي تعبّر عن القوّة الذكورية.

وليس هنالك من علاقة لغويّة إلا وتكون قابلة للتغيير، لأنّها بالأساس علاقة غير طبيعيّة، والهويّة كهويّة الرجل أو المرأة مثلا ليست معطى ثابتا وطبيعيّا، بل تُبنى عبر استخدامنا المستمرّ المتواصل للرموز، وهنا بالضبط يبدأ فعل التفكيك، بتفكيك تلك الثنائيّات المتضادّة وتمزيقها من جذورها لأنّ هذه الجذور بالأساس افتراضية لا حقيقيّة، حتى وإن تمّ ترسيخ وجودها، وبالتالي يجب أن تنفتح على معانِ جديدة.

وهنا كذلك بالضبط تبدأ الصعوبة في فهم التفكيك، لأن منح معانِ جديدة يستوجب التفريق والفصل الدقيق بين كلّ كلمة وأخرى وكلّ مفهوم أو مصطلح وآخر، ولذلك تجد أن دريدا أفرط في استخدام المفردات التي تخصّ فعله التفكيكي، مثابرا على الاستمرار في التفسير والتأويل عبر استخدامها بشكل مختلف ومعنى مختلف.

وبمعنى آخر أكثر تقريبا فإنّ دريدا يُخبرنا أنّ معاناتنا كبشر لها أسباب لا يمكن تبرئة اللغة منها عبر استخدام ما تحمله من رموز وعلامات وإشارات، ولذلك يحمل فعل الكتابة لديه شيئا من القداسة لأنّ من شأنها أن تقوم بشيء من التجريد، ولذلك أيضا يشير لأهمية فعل الحضور بالصوت لأنّ هذا الصوت من شأنه أن يقلّل من مادّية اللغة التي تمتلك معاني ذاتية تخصّها قد تسبقنا إلى موضوعاتنا، فكلّ علامة لها معنى لا ندركه إلا لاحقا وفيما بعد، وهذا يخلق فجوة علينا ملؤها بدراسة هذه العلامة وتفكيكها وتفسيرها وتأويلها بفعلٍ مختلف، في وقت يستوجب أن نعلن فيه انفتاحنا على الآخر وعلى كلّ جديد، ولا يجب حتى على انتماءاتنا الضيّقة أن تحاصرنا مطلقا ولا يجب أن تصيغنا أو تحدّ من حرّيتنا.

ألم يسبق لـ “سليل بيت اللغة القديم” الصحفي والناقد النمساوي الساخر “كارل كراوس Karl Kraus” أن حذّرنا من أنّ نهاية الجنس البشري تكمن في سوء استخدام اللغة؟ وكأنّ هنالك من يتّخذ من اللغة أدوات مطبخ ينتظر منها أن تقوم بفعل ما يريده وما يبتغيه؟

دريدا لا يقوم بفعل تفكيكيّ فقط بل بعملية خلق مستمرّة دون أن يطرح أيّ بديل، وفي ذلك تكمن قوّته لأنّ زعزعة الاستقرار تتطلّب التفكير بشيء مختلف عمّا يطرحه طرفا أيّة ثنائية متناقضة، وسلاحه الثورة من داخل النصوص وانتهاك المقدّس فيها.

كان أهم ما قام به دريدا مواجهة المركزية الأوربية والفلسفة الغربية من داخلها، ولذلك قال “بول دو مان Paul de Man” أحد أعمدة المدرسة التفكيكيّة في أمريكا: “لا يمكنك تفكيك إلا ما تحب“.

عن المقال المترجم

كان عنوان المقال الأصلي “في الثمانينيّات بُجّل كطقس شعائري، واليوم أقرب للنسيان: قصّة صعود وأُفول الفيلسوف جاك دريدا“، وهو كما يبدو عنوانٌ طويل، وكتبه الألماني الأمريكي “هانس أولريش غومبريخت Hans Ulrich Gumbrecht” الفيلسوف والمؤرّخ والناقد الأدبي، عضو الجمعية الأمريكية للعلوم والفنون، والمدرّس في جامعة ستانفورد بأمريكا وعدّة جامعات ألمانيّة.

سنعرف أهمّية المقال، إن عرفنا أنّ فلسفة دريدا قد لقيت صدى ورواجا في أمريكا أكثر من أيّ مكان آخر، رغم أنّ صاحبه يتمايز بالافتراق عن ذلك الترحيب الواسع بفلسفة دريدا في أمريكا، خاصّة وأنّه يحمل الجنسيتين الألمانية والأمريكية.

والمقال يسرد قصّة بروز دريدا وشهرته ثمّ غيابه كمنهج فلسفي، وأتى كاحتفاء بذكرى ميلاده التسعين.

التّفكيك الأمريكي

كان دريدا معروفا في أمريكا أكثر من فرنسا نفسها، فنظّم وقته في السنوات العشر الأخيرة من عمره، ليتنقّل بين باريس وأمريكا التي تشكّلت فيها مدرسة تحمل اسم “الدريدائيين“، بل إنّ هنالك من قال بـ “التفكيك الأمريكي“، كالناقد البريطاني “كريستوفر نوريس Christopher Norris“.

أخضع دريدا تأسيس أمريكا نفسها للتفكيك، بعدما تمّت دعوته للمشاركة في الاحتفال بالذكرى المئوية الثانية للاستقلال الأمريكي، بجامعة فرجينيا، ليضع شرعية من أعلنوا استقلال أمريكا ككيان قوميّ سياسي ومن أعلنوا عن أنفسهم بتوقيعاتهم على الإعلان كسلطة مرجعية، أمام المساءلة واختبار الشرعية.

هذا كان جزءا مما هدف إليه دريدا بتجاوز المركزية الغربية وتعريضها للاختلاف أو تقويض ما سمّاه “الوهم السائد في ميتافيزيقيا الغرب” وعدم الاعتراف بوجود معرفة يقينية تعتمد الحواس عبر القول بثنائية الشكّ واليقين واتّباع المنهج العلمي.

ومع أنّه لا يوجد من أثّر على النقّاد الأمريكيين بعد مرحلة البنيوية الفرنسية أكثر مما أثّر دريدا، فقد وُصف أنصار التفكيكية في أمريكا بجمع المهلهلين، لكن يبقى بول دو مان أحد أعمدة التفكيكيّة في أمريكا، بل إنّ هنالك من قال إنّه لولا هذا الأخير لما انتشرت التفكيكية، لكن هذا الأخير وكذلك دريدا اتُّهما في أمريكا بتبرير أفعال النازيّة بألمانيا للعفو عنها.

عُرفت تلك المدرسة في أمريكا باسم مدرسة جامعة بيل التي زارها دريدا أواخر ثمانينيات القرن العشرين ليلتقي ببول دومان صاحب المدرسة المغايرة في منهجيّتها لمدرسة دريدا الأساسية، لتثري تفكيكيّة دريدا ثراء ما بعده ثراء.

استخدمت مدرسة بيل طرائق معقّدة في التحليل والعمل التفكيكي في مقاربة النصوص المعقّدة. ولعلّ الأمر الذي ساعد على تقارب دريدا وبول دو مان هو نزعتهما لعدم الفصل بين الفلسفة والأدب، فدو مان كان ميّالا للأدب ودريدا عالج كثيرا من النصوص الأدبية مستخدما فلسفته، كنصوص الإسباني بلانشو مثلا. والأدب عموما يبقى الحقل الأهم لفهم آليات اللغة، ودريدا نظر للأدب كـ “حركة تفكيك ذاتية للنص“.

وفي أمريكا دخل “أدوارد سعيد” في جدال طويل مع التفكيكيّين وهو يحاول منح النص بعدا سياسيّا، لتلجأ جامعة بيل إلى إصدار أعمال دريدا كنصوص صرفة فقط.

لا يجب أن ننسى دور الإنكليزية الأمريكية من أصول بنغالية، المدرّسة في جامعة هوبكنز الأمريكية وصديقة دريدا “غاياتري شاكرافورتي سبيفاك Gayatri Chakravorty Spivak” ولا سيما تقديمها لكتاب جاك دريدا وأحد أهمّ النصوص التأسيسية للتفكيكيّة الذي ينتقد فيه المركزية الغربية، وهو كتاب “في علم الكتابة” الذي أُعيد نشره من قبل جامعة هوبكنز وأثير نقاشٌ طويل عنه.

ودور سبيفاك يؤكّد أنّ التفكيكية إنّما كانت سلاحا للحركات النسوية أيضا وزادا للدراسات ما بعد الكولونيالية والدراسات المتعلّقة بالذاكرة، ولعلّ المقال الأشهر لسبيفاك هو مقالها”هل يستطيع التابع أن يتكلم؟“، الذي يشكّل جزءا مما تنشغل به سبيفاك حول مفهوم ومقولة الإخضاع كعمل مركزيّ لها.

وصفت سبيفاك تلميذة بول دومان نقد دريدا للفلسفة الغربية بأنّه نقدٌ تقاربيٌّ لا تفارقيّ، عبر الحديث من داخلها، وبالتالي فهو هدمٌ وبناءٌ في آن، وهو ما يمثّله جوهر التفكيكيّة.

ومن وجوه التفكيك في أمريكا يمكن ذكر الماركسي الأمريكي “فريدريك جيمسون Fredric Jameson” الذي يبدو وكأنّه حاول المصالحة بين التفكيكيّة والماركسية خاصة وأنّه كان صديقا لبول دو مان.

أيضا لا بد من ذكر “جاي هيليز ميلر J. Hillis Miller” الذي ورغم كونه في عداد التفكيكيين بأمريكا انتقد مبالغة دريدا في فعل القراءة الدقيقة وهو يعالج رواية عوليس لجيمس جويس، لدرجة أنّه خصّص أكثر من ثمانين صفحة لكلمة “نعم”، ليصف هيلز ميلر ذلك بالقول: “انفجار مغرق ومفرط“.

فلسفة دريدا جوبهت في أوربا بمعارضة شديدة، لدرجة أنّ جامعة كامبردج البريطانيّة، ممثّلة بهيئة تدريسها، خرجت في مظاهرة احتجاجية على منح رئاسة الجامعة دكتوراه فخرية لدريدا.

وسواء أعجبتنا فلسفة دريدا أم لم تعجبنا، فالوصف الذي وصفه به الرئيس الفرنسي جاك شيراك، من شأنه أن يدفع معارضيه ومؤيّديه للاتّفاق على نقطة التقاء. وصف شيراك دريدا، معلنا وفاته بمرض السرطان، في 8 تشرين الأول/أكتوبر 2004، بأنّه كان يلامس “جذور الإنسان التفكيرية في حركة حرة“.

دريدا والماركسيّة

عارض الماركسيون دريدا والتفكيكيّة آخذين على التفكيك انشغاله بالنصّ بشكلٍ هاجسي مفرط، مع تجاهل الوقائع السياسيّة.

تمّ القبض على دريدا في أثناء زيارته لتشيكوسلوفاكيا، قبل انهيار العالم الاشتراكي وحلف وارسو، بتهمة الإتجار بالمخدّرات، ليُقال إن دريدا عانى من الإرهاب الماركسي خاصة وأنّه أعلن رفضه بوضوح لانتهاك حقوق الإنسان وسياسة الحزب الواحد وعبادة الشخص، في وقت رفض الهيمنة الأمريكية على العالم.

صحيفة “ليبراسيون” المحسوبة على اليسار الفرنسي نشرت مقالا اتّهمت فيه دريدا بمحاباة النازية بسبب دراساته عن هايدغر المتّهم بدعم النازية، وادّعت أن لا فائدة تُرجى من قراءة دريدا، لتصفه أخيرا بـ “الرجعي اللاعقلاني المعادي للأنوار والمحافظ الجديد“.

أصدر دريدا كتابا عن كارل ماركس هو “أطياف ماركس Spectres de Marx” كآخر نتاج فكريّ له قبل وفاته، ورغم كل الانتقادات الموجّهة لهذا الكتاب فقد اعتبر إحياء للنظرية الماركسية.

واجه دريدا الماركسيّة ونموذجها السوفياتي، الفائض بالأيديولوجيا وادّعاءات الحقيقة ومزاعم احتكار الكمال، رغم حرصه المستمرّ على وصف نفسه باليساري في فكره.

والنموذج السوفياتي المدّعي للكمال ينطبق عليه وصف دريدا للميتافيزيقيا عبر تراتبيات القيم والفروقات الوجودية الأخلاقية المتمثّلة في التعارضات، كالسوي والشاذ أو كالإيجابي والسلبي أو المثالي وغير المثالي. وبالطبع فالصفة الإيجابية مثّلها دوما هذا النموذج المنحلّ، وفقا لكلّ ادّعاءاته.

العمارة التفكيكيّة

مع دريدا تُذكر دوما التفكيكية، كمنهج قادر على تقويض الحقيقة من حيث كونها مفهوما ميتافيزيقيّا، يفتح آفاقا واسعة لتأويل النصوص.

لكنّ التفكيكيّة تعدّت النصوص لتصل حتى إلى العمارة، التي تجاوزت الطراز الإنشائي التقليدي السائد منذ ثلاثينيّات القرن العشرين، للتعبير عن الغليان والثورة، حاملة دلالاتٍ سيكولوجيّة، يعبّر فيه الشكل عن الجوهر والأصالة معا، في بوتقة معماريّة حاملة قيمةٍ تعبيرية وفلسفة قائمة على الفصل بين الفنون في تشييدها، كالفصل بين الرسم والنحت مثلا.

العمارة التفكيكيّة نسفت الأسس الهندسية الإقليدية، مع تأكيدٍ في ذات الوقت على أنّها تعبّر عن الهدم والبناء في محاكاةٍ للفطرة الطبيعية التي يحملها الطفل وهو يفكّك ألعابه ثم يعيد تركيبها من جديد.

المعماري الأمريكي الأشهر، لــويس ســوليفان Louis Sullivan، اعتبر وظيفة المبنى سببا في وجوده، والشكل يُعبّر عن وظيفته، وهو موجود بسببه، وهذه الوظيفة تلعب الدور الحاسم في الشكل المناسب.

فالعمارة التفكيكية أتت كظاهرة ثقافية لتعبّر عن أسلوب ثقافي وفلسفي في آن. والعراقية الراحلة “زها حديد” اتّبعت في كثير من مشاريعها هذا النوع من العمارة، إضافة لاستفادتها من السريالية طبعا.

دريدا والحداثة والفلسفة الظاهراتيّة

لم تظهر التفكيكيّة إلا كإحدى تجليّات الحداثة وما بعدها، لتُخضع المسلّمات للشكّ والنقض، كما حال الأبستمولوجيا واللغة والميتافيزيقا وحتّى اللاهوت.

سبق ظهورها ما وصفه اللّاهوتي وعالم الاجتماع الألماني إرنست ترولتش Ernst Troeltsch (1865-1923) بأنّ التاريخ نفسه غدا إشكالا، حتّى نال الشكّ من ” كل المعايير والقيم والمثل الراسخة للوجود الإنساني “.

دخل دريدا في مواجهة مع البنيويّة وليفي شتراوس وفوكو، مفنّدا طروحاتهما وطروحات البنيوية، وقبلهما دخل في مجابهة مع كانط ومذهبه عن الحرية.

كان لـ “أدموند هوسرل Edmund Husserl” معلّم هايدغر ومنهجه الفينومينولـوجي والفلسفة الظاهراتية وطريقة تناولها للمعرفة، ربّما الدور الأكبر في بروز التفكيكيّة، فـ “كل فلسفة تكيّف نفسها، وتعبّر عن ذاتها، وفقا لمنهج فينومينولوجي.” وفقا للناقد الأمريكي هربرت شنايدر.

كان هوسرل قد عرّف الفينومينولوجيا، معتبرا أنّها تقوم بدراسة الوعي، منطلقا من اعتبار الأشياء ظواهر محايثة للوعي والخبرة. فالواقعة الأوّلية المعطاة للوعي والمدركة حدسا، تعني أنّ هنالك قصديّة في الموضوع لحظة الإدراك، واللحظة تلك تشكّل إدراكا ميتافيزيقيّا من قبل الذات التي تعيش مدركاتها، وهي تؤمن بقدرتها على التأمّل انطلاقا مما يُحيط بها.

والأمر هنا لا علاقة له بالاستقراء أو الاستدلال، بل هو محاولة للوصول لماهية الشيء بشكل عياني فردي، فهنالك مادّة معطاة وعليه إضفاء معنى عليها، وهنا قد يُعلن الخلق والإبداع الفنّي عن نفسه.

كان هوسرل يرى التجربة مصدرا للمعرفة وبإمكانها أن توصلنا لمعرفة ماهية الموضوع، وماهيات الظواهر تتجلّى في الوعي.

لكن دريدا سيرفض اختزال الفكر كلّه في لحظة كهذه، من لحظات الفهم الذاتي الحضور، وسيرفض أيضا اعتبار علم الهندسة حقيقة قبلية راسخة كما اعتبرها هوسرل.

نظر دريدا لهوسرل كوريث أخير صارم لما سمّاه التعارضات الكبرى التي أسّست تاريخ الفكر الغربي، داعيا إلى تجاوز الفلسفة الظاهراتية ونسف الفلسفة الغربية القائمة على الذات منذ زمن ديكارت، ليكون العقل مرتكزها الأساس كضامن لأيّة فلسفة حقيقيّة.

نشر دريدا كتابا عن فلسفة هوسرل، وحمل عنوان ” مدخل الى أصل هندسة هوسرل Introduction (et traduction) à L’origine de la géométrie de Edmund Husserl “.

وكتاب ” الصوت والظاهرة La Voix et le Phénomène “، بمجمله عن هوسرل ونظرية المعنى لديه.

دريدا والقطيعة مع الميتافيزيقيا

أعلن كلّ من نيتشه وهايدغر نعي الميتافيزيقيا نعوة غير صريحة، ليُطلق دريدا على هذا الأخير (هايدغر) لقب ” الميتافيزيقيّ الأخير “، ومُعلنا انتهاء الفلسفة التقليديّة. نيتشه أكّد على أنّ للنقد هدفا أساسيا يتمثّل في استكمال تجاوز الميتافيزيقا.

التفكيكيّة كنسقٍ قائم على المفارقة مع الغيبيّات، بدت وكأنّها ميتافيزيقيا جديدة، عصيّة على الفهم سوى لدى المختصّين.

آيريس مردوك ‏Iris Murdoch“، ‏الكاتبة والفيلسوفة والناقدة الأيرلندية التي تُعيد فكرة كون اللغة خطأ جوهريا إلى أفلاطون، ولها كتاب يحمل عنوان “الميتافيزيقيا مرشدا إلى الأخلاق“، ترى أنّ المذهب الصوري المتطرّف قد يغدو نظرية ميتافيزيقيّة، بتنكّره للتمييز الضروري بين الذات والعالم، وبين استخدامات اللغة الأكثر توظيفا للإشارة.

ذكرت مردوك أنّ أحد مؤيّدي التفكيكيّة اعترف بأنّ التفكيكيّة “نـوع جديـد مـن الميتافيزيقـيا لكن ليس كمـا فـي الجـدل التقليـدي فـي حـوارات أفلاطـون وأرسـطو“.

اعتُبرت التفكيكيّة متشابهة مع الميتافيزيقـا “فـي اسـتخدامها التركيبـات الاسـتعارية، وتكـوين العبـارات“.

تحرص التفكيكيّة على فكّ الارتباط بين اللغة وكلّ ما خارجها، لاستكشاف ما يُظهره النصّ وما يُخفيه، فتقوم بدراستين للنص، دراسة تقليديّة لمعانيه، ثم دراسة تالية تنسف مخرجات الدراسة الأولى، فتغدو تفكيكا وتقويضا.

تغدو التفكيكيّة أكثر صعوبة على الاستيعاب مع كثرة المصطلحات، كمصطلحات الحضور والغياب والاختلاف والأثر والتشتيت والمدلول المتعالي والإرجاء، وكلّها مغايرة للسائد، لا تستكين للاستقرار، تتقلّب بين معنى وآخر، لا نهتدي معها لمعنى نهائيّ حاسم.

شكّلت التفكيكيّة أهم حركة بعد البنيوية، ومازالت تخضع للتفسير والتأويل حتى يومنا هذا، كحقل معرفي بلاغي يتمركز حول الكتابة، ملغوما بالكثير من العقبات، وكأنّ دريدا حشرنا فيما لا يمكننا الفكاك منه، نعجز عن إشباع فضولنا المعرفي، فهي تعمل على نسف كلّ منهج أو نموذج، دون تعويضنا ببديل.

تركنا دريدا تائهين في البحث عن معنى، مشغولين بسحر هنا وسرٍّ متوارٍ هناك. ففلسفة دريدا مهووسة بزعزعة اليقين الفلسفي، واللعب المستمرّ مع العلامات.

حين توفّي دريدا، نشرت جريدة النيويورك تايمز مقالا في رثائه، مرفقا بمقال آخر حمل عنوان ” تفكيك أبو مصعب الزرقاوي “، وهو الأمر الذي نفى أدوار سعيد أن يكون مصادفة، بمعنى أنّه غاب ليحضر بمنهجه.

الترجمة الكاملة للمقال عن جاك دريدا

“في الثمانينيّات بُجّل كطقس شعائري، واليوم أقرب للنسيان: قصّة صعود وأُفول الفيلسوف جاك دريدا

هانس أولريش غومبريخت Hans Ulrich Gumbrecht

التفكيكية“، هكذا سمّى فكره. عُدّ هذا المصطلح ولمدّة طويلة من المفردات الفضفاضة في الاستخدام اليومي. لكنّ كتابات جاك دريدا تبدو اليوم، وكأنها إيماءاتٌ ساخرة من زمن مضى بعيداً. هذا تذكير بمناسبة يوم ميلاده التسعين.

نظرة صارمة، كأنها تتنبأ للأمام: هكذا عُرف جاك دريدا من خلال كتبه ومقالاته. لكن فهم الموضوع على هذا النحو المغلوط يفشل تماماً في وصف الفيلسوف.

حين توفّي جاك دريدا Jacques Derrida في أكتوبر من عام 2004، كان أسلوب الكتابة الفلسفية الذي ابتدعه قد بلغ مداه من السحر. حدّة ردود الفعل على هذا الموت، كانت قد تركت توقّعاتٍ بأن مرحلة ما قد وصلت لنهايتها.

في “النيويورك تايمز New York Times” التي نشرت في الوقت ذاته “نعوتين”، تمّ رفع دريدا ليوصف بـ “أعظم فلاسفة القرن العشرين“.

ونظّمت الجامعات الأمريكية جلساتٍ خاصّة، لتُتيح لمعجبي دريدا توديع بطلهم، في وداعٍ رسميّ. شكّل ذلك استمرارا لموقفٍ شبه ديني كان قد أُسبغ حتى ذلك الحين على أقلّيةٌ من الكتّاب (ككارل ماركس أو سيغموند فرويد)، وفيه تبلور سؤال القارئ: “ما الذي أراد دريدا أن يخبرنا به؟“.

وكأنّ كلّ كلمة من لدن دريدا مثلها مثل كلمة إله توحيديّ، يتمّ توجيهها باستمرار إلى جميع الناس (بمن فيهم الأجيال القادمة).

بالطبع، لم يكن بإمكان تلك الإشارات التصالحيّة تحويل أو وقف مسار تدهور التفكيكيّة الذي كان يتفاقم أكثر فأكثر، بشكلٍ واضح آنذاك. وحتى وقتٍ قريب، حافظت الدوائر المرموقة سياسيّا على ما درجت عليه من طقوس، بالحديث عن كتّابها، بمزيدٍ من التباهي والإجلال.

ربما لأنهم ظلوا (الكتاب) مرتبطين في أذهانهم بالقدرة على منحهم فرصة إسكات معارضيهم الفكريين، ببضع كلماتٍ رنّانة، لكنّها صعبة على الفهم، والحصول على مناعة ضد أي هجوم في نفس الوقت.

ولكن في الآونة الأخيرة، نشأ انطباعٌ تنامى بسرعة، ليصل لحدّه الأقصى من الحدّية والتطرّف حسب النظرية الأدبية في الاستقبال واستجابة القارئ في تحليله لنماذج الاتّصال”der Rezeptionsgeschichte”، يتعلّق بقناعة راسخة بأن لا منهجا فلسفياً يملك في زمن الكورونا قيمة أقل من التفكيكية شبه المقدسة سابقاً. ما الذي يكمن وراء صعود وهبوط هذه الحركة الفريدة؟

النّجاح المبكّر: العوامل

فجأة وبضربة واحدة أصبح دريدا مشهورا في العالم، مع نشره ثلاثة كتب في العام 1967 الذي شكّل “عام المعجزة Wunderjahr” على المستوى الشخصي له. وكان قد سبق له أن أظهر نبوغه الإبداعي في لقاء مخصّص للمفكرين الفرنسيين الكبار، عُقد في جامعة جونز هوبكينز Johns Hopkins University، ثم ـ ومع نشره لمجموعة من المقالات ـ سرعان ما لاقى نقده للنموذج المعرفي للبنيوية Paradigma des Strukturalismus، السائدة آنذاك استحسانا وتوصية داخل الأوساط الأكاديميّة، ليُنظر إليه ليس كعالم شاب مغمور، بل كعالم أكاديمي ذي مستقبل واعد.

كما تبيّن أن ذلك “التشتيت” أو “التفكيكيّة” التي استهدفت البنى التقليدية في ادّعائها النمطي للموضوعية قابلة للسحب أيضاً على الماركسية الأكثر ضراوة آنذاك دون أن يتعرض لها دريدا بالنقد، فكانت اللبنة الأولى للنجاح.

ثانيا، طوّر دريدا أطروحته المعروفة بـ “نقد الميتافيزيقا Metaphysik-Kritik ” القائمة على التشكّك في كلّ عقائد تفسير العالم الموضوعية، انطلاقا من مناقشة منهج وأطروحة “أدموند هوسرل” عن تطوّر الأشكال الأوّلية العامة للوعي البشري، عبر الملاحظة الذاتية.

هذه العملية طوّرها دريدا في دراسته “الصوت والظاهرة” كمقاربة ميكروسكوبية دقيقة لهوسرل، تستند إلى النصوص الأفلاطونية، وفي المقام الأوّل التأمّلات الانعكاسيّة الأولية المكتوبة عن الوعي بالعالم التي توسم بالمحاورات.

في هذه المرحلة الشفاهية تتوهّم الحواس بقدرتها ـ كوجود موضوعي ـ على الإنصات للذات، وبالتالي ادّعاء فهم وإدراك الموضوع ككل أو حتى كشخص وذات، وهو ما يدخل في إطار التقاليد الأوروبية عن إدراك العالم وفهمه*.

كان ينبغي لتحوّل دريدا من الاهتمام بالخطاب الشفوي المنطوق إلى القراءة والكتابة أن يشكّل مدخلا جديدا لفهم العالم، لم يكن متاحا ككلّ أبدا بل شظايا منه فقط، هي بدورها في نهاية المطاف عصيّة على الفهم.

حاجج دريدا محاولا أن يبيّن أنّ صوابية (اليقين) التفكير والتأمّل الذاتي الانعكاسي تدوم لأجزاء من الثانية فقط كل مرّة، بدءا من لحظة القراءة (لا يخلق منهجا متكاملا على الإطلاق) ـ ولذلك ليس لها عواقب على المعرفة. جميع الفروقات الواضحة بين المصطلحات وكذلك الفرضيات التي تقول بإمكانية استيعاب العالم وإدراكه عبر اللغة مبنيّة على تشوّهاتٍ في عناصر منهجية مؤثّرة، ولذلك يجب رفضها باعتبارها ساذجة.

في نظرة كلّية شاملة للاعتراضات التاريخية والمنهجيّة التي يمكن تأمّلها ضدّ نقد دريدا للميتافيزيقا أظهرت عدم رأفةٍ به. ومع ذلك لا يتعلّق الأمر بموهبته، التي أظهرها بالأخصّ في كتابه “دراسة أنظمة الكتابة Grammatologie” الأطول والأكثر غموضا، عالج فيه الحدس الفلسفيّ ذاته في خطاب أدبيّ جذّاب، ما خلق محاولات لا حصر لها على مدى عقود لتقليده. هذا الخطاب لاقى قبولا ورواجا فكريا، خاصّة في الولايات المتّحدة، لتُقرأ التفكيكيّة في سنوات ما بعد عام 1968، كحدث.

أوّلا وقبل كلّ شيء، فإنّ دراسة دريدا للنصوص عن قرب في عمله أشبه ـ (للمرء الحق في الإشارة إلى أنّ مقالاته تذكّر سريعا بالتعليقات) بثقافة ” القراءة الدقيقة “**، تلك التي سادت كمعيار دلالي للعلوم الإنسانية الأمريكية منذ أواخر عشرينيات القرن العشرين.

لكن التفكيكيّة المبكّرة في الدول الغربية، صادفت أوّلا جيلا من المثقّفين، الذين أُصيبوا بخيبة أملٍ عميقة من خطوات الهيمنة السياسية للاتّحاد السوفياتي، للتصدّي للخطوة الصعبة المتمثّلة في الافتراق عن الماركسية بحماسِ أكثر من ذي قبل، بعدما كانت نموذجا بديلا ملهما. وفّر لهم فكر دريدا فرصة لاستكمال القطع الصريح مع الماركسيّة، دونما حرج في أخذ مسافة منها من جديد. وأعطاهم في الوقت ذاته مهمّة وجودية جديدة، مع نبذ الأوهام الساذجة الكامنة في “الميتافيزيقا“.

ضعف دريدا: عدم القدرة على التمييز

مما لا شكّ فيه، أنّ التفكيكيّة وعموم الحركات الفكرية التي ساهمت في نقد الميتافيزيقا، في ذلك الوقت، كـ ” البراغماتيّة ” لريتشارد رورتي Richard Rorty أو “نظرية الأنظمة” لـنيكلاس لوهمان Niklas Luhmann، تتشارك في مشهد الرضا الذاتي كمدارس فلسفيّة راسخة أدهشت بشدّة.

ومع ذلك فقد كان واضحا من البداية أنّها صالحة لمدّة محدّدة فقط، لما تمّ من تضخيم لدورها وتطبيقها على كلّ شيء.

لقد ثبُت على المدى الطويل أنّ التهديد الحاسم لهيبة دريدا لا يتعلّق بأيّ حالٍ من الأحوال بنقصٍ في الكفاءة، بل بفطرته للتودّد لإسقاطات أولئك القرّاء الذين كانوا قد تحوّلوا من معجبين إلى مريدين مؤمنين، بشكلِ مبالغِ فيه جدا في اللطف والمجاملة. (لم يكن من قبيل الصدفة الحديث في فرنسة آنذاك عن “مصلى التفكيكيّة chapelle déconstructiviste“).

في الواقع فإنّ دريدا في العقد الأخير من حياته وفي محاضراته الثلاث بجامعة ستانفورد Stanford، أشعرنا بأنّه أكثر من زميلٌ متواضع في أسلوب تعامله الذي يذكّرنا بدبلوماسيِّ ما أو بصاحب مصنع نبيذ.

في كلّ الأحوال لم يكن لحضوره البهيّ أية علاقة بوجه النبيّ على أغلفة الكتب، بنظرته وإطلالته المبتهجة المغرقة في النشوة.

لذلك فالأمر الذي زاد من ذهولنا واندهاشنا نحن الجامعيّين الأمريكيين، كان ذلك الطقس الشعائري للبروتوكول الاحتفالي، الذي أعقب مناقشة دريدا طلّاب الدكتوراه. اصطفّوا بأناة وتصبّر، ليشكروا المعلّم بصمت وهم يشدّون على يديه، ليُكافؤوا بلحظاتٍ من التواصل البصري الصامت. غالبيّة المريدين في كاليفورنيا مرّروا إليه رسالة جوابية ضمنيّة مغلّفة بنظراتهم، تقبّلها الضيف بكلّ ودٍّ وخشوعٍ مؤثّر.

نحنُ المتفرّجين توجّسنا مما كان يُضمره كلّ ذلك الأداء الاحتفالي الراقص.

في بداية عام 1982 كان قد أُلقي القبض على دريدا، وهو في زيارة إلى تشيكوسلوفاكيا، للاشتباه بإتجاره بالمخدّرات، قبل أن يُطلق سراحه لاحقا. ذلك الشغف الضمني بالتماهي مع كاتبٍ، يكتب نصوصه تحت تأثير المخدّرات على ما يبدو، ترافق على الفور مع احتجاج دولي ساخط على توقيفه.

منذ ذلك الحين، وبعد نصف ساعة في الطريق إلى الفندق، أخبرني دريدا بأنّ تلك الرسائل الجوابية الضمنية المغلّفة كانت تقليدا متّبعا في كلّ ظهور له كضيف، لأنّه لا يجد شيئا من القوّة في قلبه ليُقرّ لأتباعه ومريديه الأسخياء بأنّ المخدّرات لن تدخل حياته أبدا.

ثمّ أنزل زجاج نافذة السيّارة متخلّصا من كلّ الهدايا، التي غدت كسحابة بيضاء صغيرة في مهبّ الريح.

لا بدّ وأنّه قد تحامل على نفسه أيضا بما يتعلّق بالنصوص والأيديولوجيّات المفضّلة لدى جموع قرّائه. هكذا ببساطة وجد دريدا صعوبة في أن يخيّب الآمال المعقودة عليه ويأخذ مسافة فاصلة من المجاملة واللطف المتوقّع منه. هذا يفسّر، لماذا اشتغل في كثيرٍ من المقالات والكتب على مواضيع ليس لديه إلّا القليل مما يمكنه قوله عنها.

ولعلّ الأمثلة الأكثر وضوحا تتمثّل في المقارنة اليائسة الطريفة بين رواية ” عوليس Ulysses ” لجيمس جويس James Joyce وصوت الحاكي (Grammophon)، كما حال عمله المتأخّر عن كارل ماركس، ينظر بتورية وتلاعب لا حدود له بالألفاظ، للخطاب في البيان الشيوعي عام 1848، كـ ” طيف “. لقد غدت حقّا كلماته تلك للنسيان تماما اليوم.

التّفكير في عالمٍ مفقود

عاد الفلاسفة في أوقاتنا هذه وهم يُدركون حدودهم، من مقامرة “نقد الميتافيزيقا” إلى رزانةٍ جديدة ولواقعٍ جديد.

بالنسبة لكتّاب مثل كوامي أنتوني أبيا Kwame Anthony Appiah في نيويورك، وبرونو لاتور Bruno Latour في باريس أو ماركوس جبريل Markus Gabriel في بون، لا مجال لتحليلاتِ موضوعية بمعناها التقليدي تماما كحاجتهم للاقتراب منها قدر الإمكان.

حاليّا، تضاءل الاندفاع المفرط للتفكيكيّة للإشارة إلى عدم شرعية الفصل الواضح بين المفاهيم، لتتحوّل وبشكلِ ساخر إلى بقايا تذكّرنا بماضِ بعيدِ مضى، كان لا يزال العالم فيه متينا قادرا على تحمّل الحيل الفلسفيّة المقنّعة بالجدّية.

الآن تواجه البشرية تحدّيا مع فيروسٍ، يعجز سواء علماء الطبيعة أو جامعو الإحصاءات عن فهمه واستيعابه. ناهيك عن العواقب الوجودية للوباء سواء على مستوى الحياة الفردية أو المجتمع ككل. من المفارقات الساخرة التي تلفح الذاكرة أنّ نصوص دريدا في الوقت الحاضر غدت سحابةٍ بيضاء لفلسفة جميلة معتدلة من عالمٍ آخر.

بالكاد يمكن التصديق، لكنّها حقيقة: في 15 تمّوز من عام 2020، كان جاك دريدا سيبلغ من العمر 90 عاما.

******

* الفهم والإدراك عملية نفسية يُقصد بها علاقة بين الشخص الذي يفهم وبين الشيء الذي يتم فهمه.

** القراءة الدقيقة تعني التفسير الدقيق والمستمر لمقطع نصي قصير وتطورت كنقد نصّي خاصة في ألمانيا مع دراسة الكتاب المقدس وهو نقد يركّز على المفردات وبناء الجمل وتتبعها تعليقات. وهي تعتبر بمثابة قراءة عن قرب كانت تشكّل استراتيجيات قراءة في الولايات المتحدة الأمريكية.

*****

نُشر المقال في موقع جمعية الأوان وهنا الرابط إليه.

رابط المقال الأصلي:

https://www.nzz.ch/feuilleton/jacques-derrida-ein-abgesang-von-hans-ulrich-gumbrecht-ld.1565083?reduced=true

Print Friendly, PDF & Email

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *