كارل كراوس: كائنٌ مأهولٌ بنسمة الله

كارل كراوس: كائنٌ مأهولٌ بنسمة الله

عبدالحميد محمّد/ سوريا

 

عاش كارل كراوس بين عامي (1874_1936)، مهتمّا بتاريخ العالم وباللغة يُعدّها عاهرة مبتذلة عليه تحويلها لعذراء بتخليصها من تشنّجها ليُنقذها من شوائب العصر، معتبرا سوء استخدامها سببا أساسيا للحرب وللانحطاط الثقافي، عبر المغامرة بحياتها واستغباء النّاس بواسطتها إذ تُخلطُ المجازات بالتوريات، وعليه إزالة ظُلمة سوء هذا الاستعمال عنها لتفتح له رحمها وتكافئه بفكرة ما، ليصفه (جورج تراكل) بـ “سليل بيت اللغة القديم ” و ليجد كراوس بالمقابل في تراكل ” سليل الحقيقة ” الذي يعرف أين تسكن أنفاس الله ويغضب من أولئك المحاربين الذين تلمع مدرّعاتهم في كل وقت، أمّا إلياس كانيتي فأطلق عليه لقب ” سور الصين العظيم ضدّ الرداءة “، ولكراوس كتاب حمل عنوان ” Die chinesische Mauer/ سور الصين “.

عُـدّ كراوس بمثابة (محكمة استئناف عليا للعالم)، كصحفيّ وشاعر، يلقي أشعاره وأشعار غوته وغيره في فيينا، ككائن هو ” الكائن الأكثر حيوية ” من كلّ سكّانها، يحضر جلساته ومسرحياته الكاتب البلغاري الحائز على جائزة نوبل للآداب 1981 (إلياس كانيتي) الذي عدّه صنما من أصنام قليلة يعبدها، بل وإلها أزيح عن عرشه، متخلّيا عن فطنته بعد لقائه به في لحظة اعتبرها حاسمة، ليقع في فخاخه قبل أن يحاول عبثا مقاومته كبربريّ بوجدانه المقاوم، يغزوه بهيبته المسوّرة بالعقلانية الغائبة عن القرن العشرين الذي ادّعى كانيتي أنّه أمسكه من رقبته، بينما وجد (ايريك هوبزباوم ) مؤرّخ حياة الناس ورجال الشارع، في كراوس، مونولوجا يترجم الحياة الثقافية كلّها في أوربا .

حضر كانيتي أول محاضرة لكراوس في فيينا، عام 1924، برفقة ثلة من أصدقائه، ليجد فيه كائنا مجهولا بذاته، وحيوانا اكتُشف حديثا، نحيلا، قصيرا، ذا صوت حادّ، ليقرّ صريحا بـ ” فجاءة التأثير الجمعي” لديه، وقدرته على استخراج الأحداث، بقوّة جامحة، من سياقاتها، ليعالجها، ويهاجمها وهو يفسّرها، كلمة كلمة، للحضور الذي يهلّل له بمجموعه، والأمر لا يتعلّق بتفاصيل الحياة العامة وحسب، بل ينسحب على الأحداث الخاصة أيضا، سواء عن الصحافة أو النفاق أو عن الحرب وأذيالها، ليشعر كانيتي برغبة للخنوع له، كرجل لن يُنسى حتى بعد ثلاثمائة عام، كقلعة جبّارة في عالم القوانين، يذود عنها، بسلاطة اللسان والهلع، و بصوت وصفه (جورج تراكل )، بالصوت الكريستاليّ الساحر الغاضب، لكائن مأهول بنسمة الله الثلجية، ساحرٌ مُحتـَدمُ الغضب، في معطفهِ المتوهج تصلصل عُـدّة المحاربِ الزرقاء، ثم كاهنا للحقيقة هو الأبيض و الأكبر .

شكّل اغتيال ولي عهد النمسا الأرشيدوق (فرانز فرديناند) على يد طالب صربي في مدينة سراييفوا منعطفا كان الأشدّ في حماس كراوس لمقارعة الحرب والصحافة السائدة آنذاك والتي اعتبرها سببا أساسيا للحرب، ليقود حربا ضد هذه الصحافة، ليس لإفسادها بل لأنّها هي ذاتها فاسدة، فتُفسد الذوق العام بلغتها، أما السياسة فمُفسدة للحياة كلها.

واللافت أن كراوس كان يعتبر الأرشيدوق الملكيّ المدلّل شخصا غير عاشق للحرب، مع أن الأرشيدوق ولشغفه بالصيد قام بقتل ما مجموعه (274889 حيوانًا) حسبما ذكر في مذكّراته.

اندفعت الصحف كلها قبل الحرب الكونية الأولى إلى ما وصفه كراوس بـ ” الخطاب القاتل ” في وقت كان قد وجّه نقده للصحافة النمساوية في وقت مبكّر من شبابه ليصفها بـبغي فيينا الكبير، ليذهب (فالتر بنيامين) لوصفه بـ ” سيّد النقد الداخلي “.

كانت رؤيته العامة تقوم على الإجابة عن سؤال وضعه بنفسه:

” كيف يُحكم العالم وكيف تبدأ الحروب؟ ”

أما الإجابة فهي:

” الدبلوماسيّون يكذبون والصحفيون ينشرون أكاذيبهم ”

فالصحفيّون تضلّلهم الأحداث اليومية، ولكن إجابة كراوس نابعة من خطّ عمومي سلكه، فهو انطلق من حرية الصحفي في توطيد سلطته المهنية عبر جهده في صون تلك الحرية، أي أن الأمر يتعلق بمقاربة أخلاقية للنشاط الصحفي وما قد يعتريه من انحراف، والصحفي يجب أن يملك جرأة الحكم على نتيجة في منتجه الصحافي دونما حساب أو تخوّف من الضغوطات الخارجية، وقد درج النمساويّون على تسمية كراوس بما دوّنه في كتاباته بنفسه وهو تشبيهه بعصفور يلوّث عشه، ولم يكن المقصود بالعشّ سوى النمسا نفسها، لكنّه اعتبر أنّ هذا العشّ هو الذي يلوّث أبناءه في بعض الأحيان، وأن علينا أن نقلّل من هذا الدنس ، وحين أسّس كراوس مجلة الشعلة Die Fackel، فقد قدّم للعدد الأول مؤكّدا على أنّ نقد المحيط الأقرب لنا قد يُعدّ مقدّسا يُرفض المساس به ومقاربته، ومن شأنه أن يجرّ علينا إعصارا من الردود واتّهامات بالذاتية، في وقت يمكن الاستفادة فيه من نقد المحيط الأبعد بل والاستمتاع به، لكن مع الاستفادة من ذلك في الذهاب لنقد المحيط الأقرب.

ومن الملفت أن أحد أشهر علماء الاجتماع المعاصرين (بيير بورديو) والذي دعا لتجاوز التعارض بين الذاتية والموضوعية، استشهد بمقدّمة كراوس في كتابه (كتاب يحرق)، واضعا سؤالا على غلافه، مستوحى منها وهو:

“هل يمكن لعالم الاجتماع أن يدرس بشكل موضوعي العالم الذي يتواجد ضمنه؟”

هذا يعيدنا لكانيتي الذي لمس، في كراوس، إحساسا مطلقا بالمسؤولية قارب حدّ الهوس، في حين يبدو مصطلح الالتزام المترهّل لدى الأكثرية في نظر كانيتي قائما على سخافة وابتذال ينتشر كالأعشاب الضارّة، وهو ما يُظهر علاقتنا بما يهمّنا من شؤون وكأنها علاقة موظّف بمسؤوله، وهذا أمرٌ يبعثُ على الحسرة في قلب كلّ غائب عن بلاده الغارقة في الحروب والكوارث، كسوريا والعراق، لغياب الالتزام والشعور بالمسؤولية.

في مسرحية (الملك لير)، لشكسبير، قُيل:

“تمتعي أيتها العيون المتعبة بامتياز ألا تري هذه الإقامة المهينة”

كراوس وجد نفسه محشورا في مكان وزمان يعبّران عمّا سمّاه “نظام عالميّ مقلوب”، والعملّ الفذّ الذي يمكنه فعله هو مواجهة شروق الشمس ليتجنّب أولئك الذين يجب تجنّبهم، فينهض مع الشمس ليذهب معها للنوم، ثمّ يستيقظ ليلا ليستعرض عار البشرية كلّه، لأنّ الغباء يستيقظ مبكّرا، وجميع الفواجع الكبرى تحدث قبل الظهر، وأن تنام نصف النهار فأنت تربح نصف الحياة، أما غرفة النوم فهي المكان الأقلّ أمانا، و ” الطحان الحقيقي لا يستيقظ إلا حين تتوقف الطاحونة”.

ينام ليلحظ ملك شكسبير العجوز يومئ:

“لا تحدثوا ضجيجا. أسدلوا الستار. سوف نذهب لتناول العشاء في الصباح”

وجد في الصحيفة علبة للوقت يصنعها ويصوغها بنفسه، ليقي روحه وجسده من العواقب المحزنة لعصر تآكلت فيه الجسور بين البشر:

“هذا الزمن العظيـم الذي عرفته حين كان ضئيل الشــأن”

كان (برتولد بريخت) قد وصفه بالشخص الذي صنع نفسه بنفسه على مقاس عدم جدوى عصره، ليكتب لاحقا في رثائه:

“حين آذى العصر نفسه بيد عنيفة، كان كارل كراوس هذه اليد”

أما النظام الأخلاقي لعصره، والذي يُسيّر العالم بذكوره وإناثه، فقد وصفه:

” واضعو الأخلاق قلبوا وضعية الأجناس:

قيّدوا جنس الأنثى بالتقليد، وعملوا على تهييج الذكر،

وبفعل ذلك جف الجمال والعقل.

مازالت هناك بعد شهوة في العالم، لكنها ليست أبدا ذلك التفتّح الظاهر للذات، بل فقط الانحطاط الوضيع لوظيفة. ”

سيأتي هتلر من بعده ليقول مبتهجا بعصره:

” غرقت الى ركبتي وشكرت الله من قلب يفيض محبة لأنه منحني الحظ الطيب بأن أكون حيا في مثل هذا الوقت “.

عصرٌ رحّب فيه توماس مان وماكس فيبر وآخرون بالحرب، من بينهم (فرويد) الذي لم يندم على تحريضه عليها إلا بعد أن دامت أكثر من المتوقّع، فقيصر الرايخ الثاني الألماني (فيلهلم الثاني) كان يأمل أن يعود الجنود الألمان من الحرب قبل أن تسقط الأوراق عن الأشجار، وكان فيه من الأحلام النابليونية ما يكفي لإشعال الحرب في كل مكان، وعلى قناعة كفرويد بأنها حرب ستشبه حرب عام 1870 في امتدادها الزمني القصير، والتي توحّدت بعدها ألمانيا.

ومع أنّ كراوس كان كانطيّا فقد دمج في كتابه (الأيام الأخيرة للجنس البشري) بين خطاب فيلهلم الثاني وخطة الفيلسوف كانط الدائمة عن السلام، في إشارة للتناقض الصارخ بين واقع الحروب المفتعلة وخطاب كانط الأخلاقي.

أورد كراوس خطاب فيلهلم الثاني، معيدا صياغته:

” نحن ندين بانتصارنا في جانب كبير منه إلى الأصول الأخلاقية والروحية الموروثة عن الحكيم الكبير لـ (كونسبرج) عن شعبنا “.

بينما علّق ساخرا من كانط:

” أعلن أنني لم أحتط للأوامر الصارمة، لتزحفوا، أن تكونوا قساة معهم، قاوموا بأقدام صلبة، كأمثلة على حتميتي القاطعة. التوقيع: كانط “.

في حوار مع المفكر الإسباني فرانثيسكو فرناندث بووي، قبل عدة أعوام، رأى أن سخرية كراوس مازالت راهنة بقوّتها، عبر استخدام اسم كانط بشكل عبثي اعتباطي لإخضاع هيئة الأمم المتحدة للقوّة المهيمنة على العالم عسكريا، بدلا من إصلاح وتعزيز دور مجلس الأمن الدولي.

كان كانط يُعدّ الحرب مشينة لأنها تخلق من الأشرار أكثر مما تزيل، ولكنّه يتّفق مع (توماس هوبز) على أنّ الإنسان ذئب أخيه، مجبولٌ على التعدّي على الأخرين وأرواحهم وحقوقهم، والفوضى حالة طبيعية قبل الوصول للمجتمع المدني، وحتى هيغل رأى أن الدولة بمعناها الصحيح يجب أن تشنّ الحرب كلّما واتتها الفرصة.

بعد ندم فرويد على تأييده الحرب ذهب إلى ما شرّع لحياة كراوس المقلوبة، ليقول:

” لابد من وجود قوة اساسية وراء ما يحدث. كره للحياة وغياب المقدرة على الحياة”.

ومع اندلاع الحرب، قال (ألبرت آينشتاين):

“يا له من نوع حزين من الحيوانات ذلك الذي ننتمي اليه”.

وهذا يشبه العنوان الذي اختاره كراوس لكتابه (الأيام الأخيرة للبشرية)، فالحزن هنا تلميح صريح لتلك الاندفاعة البشرية والمتهوّرة في ركضها نحو الانقراض.

كراوس، اعتبر الحرب العالمية الأولى هزيمة كارثية للخيال ورفضا شبه متعمّد لتصوّر العواقب الحتمية للأقوال والافعال التي تصبح ممكنة قبل كل شيء بفعل الفساد في لغة السياسة وفي الصحف الرئيسية، ليتأثّر بفيتغنشتاين ويقضي عمره باحثا عن معنى في اللغة، يبعث لديه على الحبور والسعادة، وهو يعرف أنها لن تؤدي له أعمالا منزلية، ويُدرك صوابيّة رأي غوته التشكّكي:

“الجميع، ولأنه يتحدث، فهو يعتقد أنّه يمكنه التحدّث عن اللغات أيضاً”

أدرك كراوس أن المرء قد يحصل على كلّ شيء من اللغة، لأن فيها كلّ شيء، وهي خليلة الفكر، واللغة لديه قد تُزعج كأنثى بمزاجها وتفكيرها، والأنثى الألمانية يراها تفكّر في أولادها فقط، وما يمكنها تقديمه لهم، ولذلك لا يريد المرء أن يتزوّج مربية منزل ألمانية، فالباريسية لا تحتاج شيئا لتقوله بشكل حاسم مع أنّ المرء يعتقد بكلّ شيء منها، وتتمنّى في عقلها صديقا يسبّب لها الجمال واللطافة.

ولئن كان سارتر وجد الخيال منطقة الثورة في الفلسفة، فإن (جلبرت دوران) وجد فيه دورا في إنتاج وصياغة الإنسان أنثروبولوجيا، ولعلّ كراوس كان مدفوعا بهذا الحلم في صياغة إنسان جديد، كان (إيراسموس) الهولندي قبل خمسمائة عام دعا كلّ إنسان لبذل أقصى ما يستطيعه من جهد لمنع الحرب التي تعارض ما نُذر لأجله الإنسان وهي المحبّة والصداقة وخدمة غيره من البشر.

يتّفق كراوس مع (فيلهلم فون همبولدت)، في البحث عن علاقة باطنية تربط بين رموز اللغة وروح كامنة فيها إن هي إلا هواءٌ وماءٌ تحتاجهما الحياة، أما اللغة الألمانية نفسها فلغة غير مهذّبة، لدرجة أنّه ذهب للقول:

” هنا تُبصق الألمانية. Hier wird deutsch gespuckt”

ليجد بعد ذلك، في (هاينريش هاينه) شاعرا أرخى صدرية اللغة الألمانية لدرجة بات فيها بإمكان بائع صغير مداعبة صدرها.

كراهيته المطلقة للحرب ونهجه التحذيري في التنبيه لآثارها المدمّرة، دفعت الياس كانيتي لوصفه بـ ” معلّم الفزع ” الذي يستطيع التمييز بين من تُذلّهم الحرب ومن تنفخ فيهم ، وبين الوجه النبيل للضحايا، والوجه القبيح للجلّاد، والمشوّهين فيها والمتكسّبين منها، كما هي حال شجاعته في مواجهة البلاهة بنسختها النمساوية، بينما يغدق على الضعيف بكلّ رأفته ورقّته، في وقت يبتهل فيه للحبّ والنساء، حتى تغلغل في ذوات غالبية ساحقة، يحمل تحذيره صفة الوعيد التوراتي الأصيل، متنبّئا حتى بالقنابل الذرية في الحرب العالمية الثانية التي اندلعت بعدما كان قد فارق الحياة، وكما كان على الحرب العالمية الثانية أن تنشب لتؤكّد صحة تنبؤاته، فعلى حرب عالمية ثالثة أن تؤكّدها أكثر، وتحذيره ليس إلا عرفانا يقدّمه لكل أصحاب السلطة، ليتحلّوا بالمسؤولية، ويدركوا كم هي مجنونة الحرب، سواء للمهزومين فيها أو للمنتصرين، وتستوجب القطيعة الأبدية معها، ولكنّ كانط نفسه كان قد تساءل في مقدمة خطته عن السلام، بعدما رأى صاحب فندق هولندي قد نقش، على ناصية فندقه، قبرا:

هل يوجّه اللوم إلى الناس؟ أم إلى رؤساء الدول المتعطّشين للحرب؟ أم للفلاسفة الذين يستمرئون حلم السلام اللذيذ؟

الأيام الأخيرة للجنس البشري

كتب كراوس مسرحيته التراجيدية (الأيام الأخيرة للجنس البشري)، كمراسل صحفي محلي في فيينا، معلنا رفضه للحرب العالمية الأولى بشدة ومنذ اندلاعها.

والنص كُتب بين العامين 1915_1917، ونُشر عام 1919.

كُتب وصُمّم ليكون عرضا مسرحيا وبشكل حصريّ في مدينة فيينا، ويُحسب ضمن روائع أدب القرن العشرين، ولم يُترجم للعربية حتى الآن.

يقول (إيريك هوبزباوم) عن المسرحية أنها كانت جزءا من حياة فيينا، لكنّها من النوع الذي يتقبّله قرّاء اليوم بصعوبة.

في النص يرد اغتيال الدوق، كمدخل لكل مشهد من المسرحية:

” يقول أحد باعة الصحف: ملحقّ! مصرع وريث العرش! اعتقال الجاني! فيقول أحد المارة لزوجته: الحمد لله، ليس يهوديّا “.

هوبزباوم وجد النص من النوع العميق الضخم والذي يصعب فهمه، لكن فهمه من البديهيات لدى سكّان فيينا الحاليين رغم أن النسيان قد طوى ذلك العصر بكل شخصياته.

حوارات المسرحية نُطقت حرفيا من أصحابها، لأنها ضمت شخصيات حقيقية كجنرالات الحرب.

يعتبر هوبزباوم أن كراوس استطاع الإمساك بنغمة ذلك العصر المميزة، والتي مازالت تصلح للمستقبل أيضا، وهو كواحد من أهل فيينا في ذلك العصر الذي تلاشى، امتلك رؤية سمعية عن الكلمة في فكره.

فلكل إنسان شخصيةٌ لغويّة تميّزه، ومع ذلك لا يستطيع التفاهم مع الآخرين، ليزداد الغموض والصراخ، لتبقى الكلمات معزولة عصيّة على الفهم، وتخلق شخصية سمعية تلجأ لاستخدام ما يُعبّر عن عنادها، ويشير كانيتي إلى إحساس كراوس الحادّ باغتصاب اللغة، بحيث يتلقّف بموهبة كبيرة ما ينتج عن هذا الاغتصاب في مهده.

ويبدو أن كراوس قد تأثّر بالمسرحي والفنان النمساويّ (يوهان نستروي).

يتذمّر كراوس في إحدى مونولوجاته:

” لقد أنقذت جوهر الزمن، واكتشفت أذني صوت الأفعال، ورأت عيني إيماءات الحديث، وكان صوتي يقتبس بشكل يجعل النغمة الأساسية ثابتة طوال الوقت بمجرد ترديده للكلام “.

قرأ كراوس في الحرب انهيارا لعالم بأكمله كما للحضارة البرجوازية الغربية، وأبدى دهشته من تفشّي القسوة والقتل الجماعي في مجتمع حديث منظم كالمجتمع الأوربي في ذلك الوقت، فاستطاع أن يتنبّأ بظهور النازية أيضا.

كان كراوس مسلّيا ومُرعبا في آن، يحفر في أرواحنا عميقا، كما يصفه كانيتي، وكان نظيفا، فيما بنيته ضعيفة، وكان عالمه ثريّا أصيلا يستحقّ أن يُقتدى به، وأما النبل فملامحه كانت حادة في وجهه، لا يأخذ أهل فيينا وشعب النمسا إلا برأيه حاسما لمعرفة النبيل من السطحيّ المخادع، فهل من نبيل يُعيننا على تجريد زماننا من زيفه المخادع.

نُشر المقال في موقع الصدى وهنا الرابط إليه

 

Print Friendly, PDF & Email

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *